أ. طلعت رميح – كاتب مصري
خاص بالراصد
ثلاثة مشاهد كشفت المستور وصارت أبلغ من كل تحليل:
في المشهد الاول: جاء إعلان التدخل العسكري الروسي ضد الشعب السوري، كعملية إشهار لحقيقة وطبيعة دعم روسيا لبشار وتكثيف هذا الدعم إلى درجة الاحتلال العلني باستخدام أعمال القتل والترويع.
أما الجديد في هذا التدخل فكان ما أعلن وطبّق من حركة التنسيق العسكري بين القوات الروسية والإسرائيلية في أجواء سوريا وعلى شواطئها، وغدا قد يكون تنسيقا على الأرض، هذا الالتقاء والتنسيق العسكري هو أخطر ما يجري من تحولات في المعركة، فتدخّل روسيا عسكريا هو تغيير يتعلق بتعميق وتعظيم الدعم الروسى الذي لم يغب فى أية لحظة من قبل، أما التنسيق العسكري الروسي الإسرائيلي فهو تنسيق بين محتلين لأرض عربية (سوريا وفلسطين)، بما يعمق وجود ودور الاحتلالين ويغير خريطة تشكيل التوازنات وعلاقات القوى في الإقليم أو على الأرض العربية، لا السورية فقط.
وفي المشهد الثاني: جاءت الإعلانات الروسية الإسرائيلية مرتبطة توقيتياً ومضبوطة بالإعلان عن الحلف الرباعي بين روسيا وإيران والنظامين الطائفيين –الإيرانيين- في سوريا والعراق، وبذلك انكشف المستور وخطى السر العميق خطوة كبرى نحو الانكشاف والخروج للعلن رسميا.
جاء الإعلان عن الحلف العسكري الروسي مع الوجود الروسي العسكري في سوريا وضمن التنسيق العسكري مع إسرائيل ليشكل إعلانا عن روسيا بوصفها قنطرة استراتيجية بين قوى متعددة ذات مصالح متعددة ومتباينة في الإقليم، بما يمثل تغييرا في نمط التحالفات المعلنة في الإقليم على نحو جذري، وهنا يجب إدراك أن التدخل العسكري الروسي المعلن هو امتداد لعلاقات وترتيبات روسية منذ وقت طويل وليس وليدا للحظة الراهنة.
وفي المشهد الثالث: وعلى الصعيد العملي في مجريات المعركة الجارية في الإقليم تحت عنوان حرب الإرهاب أو حرب داعش، يبدو الأمر مروعا فيما أظهره من حقائق ميدانية كاشفة، حيث الحرس الثوري الإيراني وميلشيا نصر الله وقوات بشار والعبادي والميلشيات الشيعية العراقية جميعها تخوض معركتها ضد الأغلبية السنية، تحت غطاء جوي من طائرات القوتين العظميين (الولايات المتحدة وروسيا) وبمشاركة من طائرات معظم دول الغرب البعيد منها والقريب وتحت عين وبصر الطائرات والرادارات الإسرائيلية، ومن ثم جاء التنسيق الروسي الإسرائيلي والتدريبات العسكرية المشتركة في الأجواء السورية، وعلى صعيد العمليات البحرية قبالة ساحل سوريا المطل على البحر المتوسط، حيث توجد قاعدة بحرية روسية.
هذا التعاون يطرح بعدا هو الأدق والأكثر كشفا لطبيعة التحالفات الدولية ضد الأمة في هذه المرحلة من عمر الزمن والتاريخ، وفي القلب منها إيران وإسرائيل وروسيا والولايات المتحدة، فنحن أمام التقاء حلفين يتشكل كل منهما من قوة دولية وأخرى إقليمية، فروسيا وإيران من جهة، وأمريكا وإسرائيل من جهة أخرى، وكلهم في مواجهة نفس الطرف أو الخصم أو العدو، الذى هو أمتنا.
ما نراه لم يعد كلمات يقولها أي أحد، فلا تصدق التشويش على حقيقة التحالف الإيراني الروسي الإسرائيلي الأمريكي بما يصدر من سباب وشتائم من إيران ضد إسرائيل أو العكس، بل هو الواقع المعترف به الآن، عسكريا وعلى الأرض، وفي معارك وليس فى أوضاع استرخاء وتبادل العبارات الديبلوماسية.
هو الحلف الدوار، الذى يجمع أطرافه كحلقات السلسلة، وهو نمط من التحالف يمنح كل طرف من أطرافه وضعا إعلاميا يستطيع الادعاء معه بكل ما يريد تصديره إعلاميا إلى الرأي العام العربي والإقليمي والدولي!
هو الحلف الدوار، الذي جرى الوصول إليه عبر سلسلة عميقة من تغيير توازنات القوى وتنامي المصالح في المنطقة جراء اهتراء حالة القوة الرسمية العربية، وكان اللاعب الأكبر في الوصول إلى تلك الحالة هو الولايات المتحدة، ولا تزال.
روسيا وإسرائيل:
كانت روسيا هي الدولة الأولى التى اعترفت بقيام الكيان الصهيوني كدولة، إذ سبق الاتحاد السوفيتي كلا من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في الاعتراف بقيام دولة إسرائيل.
وإذ اشتعلت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وكانت منطقتنا مثل كل مناطق العالم ساحه لصراعات ومكايدات ومماحكات تلك المرحلة، فقد تحرك الاتحاد السوفيتي نحو العرب بحثا عن مصالحه هو للضغط على الولايات المتحدة التي كانت ولا تزال الداعم لإسرائيل، لكن الاتحاد السوفيتي كان واضحا في تعيين حدود موقفه من هذا الصراع، إذ حرص على عدم تمكين العرب من تحقيق أهدافهم فى الانتصار الحاسم أو في إزالة إسرائيل، وفى ذلك استخدم إمدادات السلاح لمصر وسوريا لتحقيق رؤيته في المحافظة على بقاء إسرائيل، وهكذا حين انزاحت أجواء الحرب الباردة، كانت روسيا هي الأخطر في دعمها لإسرائيل، فإذ ظلت أمريكا على نمط دعمها المالي والعسكري والديبلوماسي لإسرائيل، فقد دخلت روسيا على خط دعم إسرائيل بأخطر الأسلحة وهي: القوة البشرية.
ففي مواجهة تزايد أعداد الفلسطينيين مقارنة بالإسرائيليين، بما يحوّل اليهود بعد كل هذا الزمن من الاحتلال إلى أقلية في فلسطين، انفتح الخزان البشري الروسي ليصل إلى إسرائيل ما يقارب المليون من الروس، والآن تخطو روسيا خطوة أبعد، بالتنسيق العسكري العلني مع إسرائيل على الأرض العربية، وهو ما لم تفعله الولايات المتحدة انطلاقا من أرض عربية.
وهذا هو جوهر التغيير في توازنات وعلاقات القوى على الأرض العربية، وهو ما ظهر من كلمات بوتن إذ قال: "إن تطوير العلاقات البناءة والمتبادلة المنفعة مع إسرائيل في المجالات السياسية والاقتصادية والإنسانية وغيرها كانت، وستبقى، أولوية السياسة الخارجية الروسية".
روسيا اليوم هي قنطرة وأداة تغيير توازنات القوى في الإقليم، وهي تحدث تغييرا هائلا وغير مسبوق وبالغ الخطر عبر تحالفات معقدة، وهي تؤسس نمطا من الاحتلال واسع الطيف قائما على تقاسم المصالح في الأرض العربية، كما هي تطوّق تركيا باعتبارها الدولة الأكثر تأهلا لقيادة العالم الإسلامي، والأكثر خطرا على روسيا لجوارها وتأثيرها على القرم وعلى دول الساتانات الخمسة التي انسلخت عن روسيا وعلى منظومة تصدير الغاز الروسي لأوروبا باعتبارها بديلا لمرور خطوط غاز أخرى، وهي مندفعة في الجمع بين إسرائيل وإيران والنظامين الطائفيين في العراق وسوريا لتكمل حصار تركيا، ولتأسيس حلف قوي ضد الأمة التى تشعر روسيا بخطر تنامي توحدها على أمنها القومي، بل على استمرار بقائها كدولة موحدة.
إيران وروسيا:
كان تطوير العلاقات الإيرانية مع روسيا أحد الخطوط الحمراء التي فرضها الغرب على حكم الشاه خلال الحرب الباردة، إذ كان الدور الوظيفي لنظام الشاه محددا –ضمن معادلاته المتعددة وعلى رأسها معادلة إخافة الخليج وتهديده -في منع روسيا من التمدد باتجاه منطقة الخليج أو المياه الدافئة، قامت إيران من جهة، وتركيا من الجهة الأخرى بأداء هذا الدور تجاه روسيا السوفيتية، لكن المياه جرت باتجاهات أخرى بعد التغيير الذي أحدثته ثورة الخميني من جهة، وتلك التي أحدثها انهيار الاتحاد السوفيتى والتغييرات التي جرت في الاستراتيجيات الروسية.
وبعد غزو أمريكا لأفغانستان والعراق، فتح المجال لإيران للدخول في مرحلة البحث عن الطموحات الامبراطورية الفارسية في الخليج خصوصا، والمنطقة العربية عموما، وكان هذا هو الدافع للتحالف مع روسيا.
لكن الآونة الأخيرة حملت تغييرا آخر، فتح الباب لانضمام إيران رسميا إلى تحالف دولي متعدد الأطراف وواسع الطيف في الإقليم، لقد حققت إيران نمطا من العلاقات مع الغرب بعد دورة خلافات حول المصالح، وهو ما ترجم الآن على الأرض بالمشاركة العسكرية الكاملة، كما لم يعد ينظر لتحالفها مع روسيا باعتباره عملا عدائيا ضد الغرب -كما كان - إذ صار الجميع في موقف التحالف ضد الأمة، وما الحرب على داعش إلا العنوان المزيف للمعركة، أصبحت إيران إلى جانب روسيا والغرب بما فتح الباب الدوار لدخول إسرائيل علنا.
إيران والعراق وسوريا:
تدين إيران للغرب بما حققته من عمليات اختراق واحتلال في الإقليم العربي، وإذا كان الشائع في القول التحليلي أن من استفاد من الاحتلال الأمريكي للعراق وتدمير الجيش العراقي هو إسرائيل، فقد أظهر تدقيقاً أن إيران كانت المستفيد المباشر بنفس الدرجة وربما أكثر، فقد كانت الحرب الأمريكية على العراق هي نقطة قلب التوازنات لمصلحة إيران في الإقليم، وفتحا لأبواب المنطقة العربية للاحتلال الإيراني، ولم يتوقف الأمر على ذلك بل امتد ليشكل استراتيجية شاملة ممتنة للولايات المتحدة، فحين قامت الثورة السورية عطلت الولايات المتحدة وصول السلاح للثوار، مع فتح الباب للتدخل الإيراني الشامل بالحرس الثوري وكافة الميلشيات الموالية لها.
لعبت الولايات المتحدة الدور الأول في كسر التوازنات وفتح المساحات الخالية أمام إيران لتحتل العراق ثم سوريا، وكان طبيعيا حين تحضر روسيا على خلفية حلف مع إيران، أن تكون أمريكا وإسرائيل في قلب هذا التحالف وتبادل الأدوار والمصالح، وهو ما يشكل نقلة كبرى فى تغيير التوازنات والنظام الإقليمي وصناعة التحالفات وتقسيم الدول ونمط الصراع الإقليمي والدولي.
بشار وإسرائيل:
حافظت إسرائيل على بقاء نظام حكم الأسد الأب وبشار الابن، ولم تسعَ أبدا لإسقاط هذا النظام، إذ لعب هذا النظام دورا وظيفيا هاما في خدمة المشروع الصهيوني، كانت إسرائيل حريصة دوما أن يظل نظاما قائما وضعيفا تتلخص مهمته في منع إطلاق قوة أغلبية السوريين في مواجهة مع إسرائيل، ولذا كان طبيعيا أن تجد إسرائيل في الوجود الإيراني والروسي ما يحقق مصالحها، إذ جاء هذا الوجود على خلفية تغييرات استراتيجية واتفاقات وتوافقات، تحقق مصلحة إسرائيل، التي تشارك كل تلك الدول في العداء للأمة.
الحلف الخماسي .. والصمت الأمريكي!
أخطر ما في حالة الحلف الدوار بين إيران وبشار والعبادي وإسرائيل وبينهما روسيا، هو أن الولايات المتحدة تبدو صامتة أو في وضعية شغب القط. وفي صمتها تبدو الولايات المتحدة في غاية الرضى وهي ترى ما هندسته وراثيا في الإقليم طوال السنوات الماضية، قد تحقق الآن، وأنها لم تعد في وارد بذل الجهد العسكري في المعارك الجارية في الإقليم، فقد صار حلفاؤها المتنافرون في وضع التحالف مع بعضهم البعض، بما يوحد جهودهم ضد أعدائها. وهي تبدو مرتاحة باعتبارها وضعت الجميع في بوتقة صراع تعيد من خلالها – من خلال إدارة الجميع داخلها- إعادة رسم التوازنات وعوامل القوة والضعف بين تلك القوى على أرض المعركة الجارية في سوريا.
فتضعف أطراف وتقوى أخرى، أو هي ستقوي إسرائيل لتصبح في موقع أقوى حين تنتهي تلك المعارك، وهنا يبدو مهما ولافتا استعادة ما قاله بوتن مرة أخرى فى هذا المقال بأن "تطوير العلاقات البناءة والمتبادلة المنفعة مع إسرائيل في المجالات السياسية والاقتصادية والإنسانية وغيرها كانت، وستبقى، أولوية السياسة الخارجية الروسية".
الأمة والمواجهة
كل هذا يجري والأمة لم ترمِ بعد بكل ثقل قوتها في المواجهة، بل هي ما تزال بلا مشروع متكامل وبلا قدرة على حشد عوامل القوة وتجميع معالمها، وبقدر ما تحسّن الأمة من أدائها، بقدر ما سترى أن هذا التحالف سيكون أكثر قطعا وأكثر إحكاما وأنه سيصبح النقطة والمحور الذى يلتف حوله كل الخصوم، غدا سنرى الأمر أشد وضوحا وأسوأ نتائجاً إذا تخلفنا عن بناء مشروعنا الخاص.