بوزيدي يحيى – كاتب جزائري
خاص بالراصد
هناك إجماع شبه كامل أن نهاية نظام الأسد باتت مسألة وقت فقط بعد انتقال الجيش الحر من مرحلة الدفاع إلى الهجوم باستهداف مراكز تجمع الجيش النظامي في مختلف المدن السورية، وتحقيقه العديد من الانتصارات، بالتزامن مع اشتداد المعارك في ريف العاصمة دمشق وبعض أحيائها، إلى جانب التصريحات الروسية المتناقضة في الفترة الأخيرة والتراجع الصيني الذي كان مندفعا في الأيام الأولى للثورة، والكل يتوقع أن يحصل انهيار للنظام في أي لحظة. وأمام هذا السيناريو أصبح السلوك الإيراني واحتمالاته أحد المواضيع المثيرة للجدل والنقاش خاصة بعد التصريحات الإيرانية التي حذرت تركيا عقب إعلانها نشر منظومة باتريوت على حدودها مع سوريا مِن أن هذا قد يكون سبباً لحرب عالمية ثالثة.
فهل يمكن أن تذهب إيران في دعمها لنظام الأسد إلى تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك بينهما وتحولها لحرب إقليمية أو عالمية أم انها مجرد بروبجاندا إعلامية؟
لملمة الأوراق
بعد تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل باغدانوف التي قال فيها إن النظام بدأ يفقد السيطرة على البلاد أكثر فأكثر، ولم يستبعد على هذا الأساس انتصار المعارضة، حاولت موسكو تأكيد موقفها السابق وإنكار حقيقة هي أول من يدركها.
غير أن الأخبار تواترت بعدها لتثبت العكس تماما، حيث أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن إرسال بوارج حربية للشواطىء السورية تحضيرا لإجلاء محتمل للرعايا الروس في حال سقوط النظام، ثم تكثيف النشاط الدبلوماسي ودعوة الائتلاف الوطني للحوار في موسكو.
هذه التصريحات المتناقضة والمواقف والإجراءات تعكس القرار النهائي لروسيا وهو الذهاب في دعم النظام حتى نهايته وليس حتى عودة سيطرته على كل سوريا كما كان الحال قبل الثورة، وبين هذا وذاك ستحاول إيجاد موطئ قدم والتموضع على حسب المعطيات الجديدة، ولكن أهم عقبة أمامها هو الموقف الشعبي منها، والذي يمثله الائتلاف الوطني إذ وضع رئيسه أحمد الخطيب سقفا عاليا للعلاقات الروسية- السورية ما بعد الأسد بمطالبته واشتراطه على وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف تقديم اعتذار للشعب السوري بسبب دعم بلاده للنظام قبل أي حوار معها، هذا الشرط يصعب على موسكو أن تقبل به وبالتالي فلا يتوقع لروسيا بعدما خسرت مصالحها في ليبيا وضع مميز في مستقبل سوريا أيضا.
هذا ما يؤكد أن الدوافع التي تحرك سلوكياتها هي اعتبارات السياسة الداخلية بالدرجة الأولى، وإذا كان الأمر كذلك فإن المبالغة بالحديث عن إمكانية تورط أمريكي روسي في مواجهة مباشرة بسبب سوريا لم يحصل حتى أيام الاتحاد السوفياتي والحرب الباردة مغامرة غير واقعية في التحليل، وهذا يستشف أيضا من حديث وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن طمئنة المجتمع الدولي من خطر الأسلحة الكيماوية التي هي تحت السيطرة، ووصفه استعمالها بالانتحار السياسي. وقول الرئيس فلاديمير بوتين إن روسيا ليست معنية بمصير الأسد وتفهمهم أن العائلة موجودة في السلطة منذ أربعين عاما وهناك حاجة للتغيير، وهي لغة دبلوماسية من الواضح أنها محاولة لِلملمة الأوراق وإخلاء المكاتب.
وحتى بالنسبة لإيران فإن الأمر لا يختلف كثيرا، فهي بدورها تركز على الانعكاسات الداخلية عليها لما يجري في المحيط العربي بشكل عام، وإن كانت حساباتها الاستراتيجية مختلفة بعض الشيء عن روسيا ذلك أنه من حيث الأهمية فإن دمشق بالنسبة لطهران ذات أهمية كبيرة جدا لأنها اعتمدت عليها في تسويق مشروعها الذي ينطلق من أسس عقدية ممتزجة بالقومية الفارسية، فسقوط نظام الأسد يعني نهاية حزب الله كورقة ضاغطة ومغطية ومظللة، ومع عدم قدرته أو حتى رغبته الدخول في مواجهة عسكرية مع إسرائل فإن الترسانة الصاروخية إما سيأكلها الصدأ أو ستوجه للداخل اللبناني ولربما لحماية الدويلة العلوية التي قد يحاول الأسد أو إيران اللعب بها، وهو أمر يظل قائما في ظل التركيز في المجازر الجماعية على نقاط التماس السنية العلوية مثل مجزرة الحولة ومجزرة دير بعلبة في حمص التي راح ضحيتها زهاء أربعمائة سوري.
كما أن الوقت أصبح جد متأخرا بالنسبة لإيران حتى تغامر بالتدخل العسكري ضد تركيا لتدويل الحرب وذلك لأن الجيش الحر أصبح يسيطر على الكثير من المواقع الاستراتيجية في شمال سوريا وخاصة منها القواعد والمطارات الجوية، بل ويهدد حتى العاصمة، أما الجيش النظامي فلم يعد سوى مجموعة من العصابات تمارس القتل فيما تبقى لها من قواعد وحواجز يطوقها الثوار، وإذا كان كل هذا ينذر بنهاية الأسد فما الجدوى من المغامرة التي ليست من مفردات القاموس السياسي الإيراني؟
وهذا لا ينفي عدم تردد إيران في دعم النظام بإرسال الحرس الثوري لخط المواجهة ضد شعبه، ولكن هذا أقصى ما تستطيع القيام به، أما حساباتها الحالية فهي تدمير أقصى ما يمكن من بنى البلد وإحداث شروخ اجتماعية طائفية تستثمر فيها وتوظفها كأوراق لاحقا، لذا يجب توقع تنامي الأعمال الطائفية والتفجيرات – بواسطة عملائها وفلول النظام - تهدف منها إلى محاولة التغطية على مشروعها وتزويد عملائها بما يحتاجونه من مواد إعلامية للبروباغندا.
الغرب والكيماوي
والأهم في المسألة أن من توجه إليهم إيران التهديدات (أي الولايات المتحدة وإسرائيل والدول الغربية الأخرى) لم تكن في يوم من الأيام ترغب بالتدخل العسكري في سوريا، وحتى الآن لم تدعم الجيش الحر عسكريا وتقف دون تزويده بأسلحة تمكّنه من حسم المعركة في وقت وجيز، فإذا كان هذا المستوى من الدعم كاف لتحقيق هدف الولايات المتحدة وإسرائيل كما تدعي طهران، ومع ذلك لم يحصل فهل يتوقع الآن أن تقْدم على التدخل العسكري وتعريض أرواح جنودها للخطر؟
والتحجج بنشر صواريخ الباتريوت على حدود تركيا أيضا غير مقنع لأن عدد البطاريات المنشورة، اقتصرت على ست فقط ما يدل على أنها خطوة رمزية بالدرجة الأولى سياسياً وإعلامياً أكثر منها خطوة عسكرية جادة وحتى في هذا الإطار فهي دفاعية ليس إلا.
والخط الأحمر الكيماوي الذي تحدثت عنه الولايات المتحدة له معنى مختلف تماما عمّا يروج له، فرغم إقدام النظام السوري على استعمال الأسلحة الكيماوية ضد أهالي مدينة حمص كما رصدته كاميرات ناشطيها، ومع كل التهديدات والإنذارات للنظام من مغبة استعمالها إلا أن الصمت كان سيد الموقف حيث لم تصدر أي ردود أفعال قوية كما كان يفترض. هذا الخذلان للشعب السوري يضاف إلى قائمة المواقف التي خذل فيها سابقا، والتي جعلته يتمسك بالشعار الذي رفعه المتظاهرون من اليوم الأول "ما لنا غيرك يا الله" ويتوكلون عليه ويعتمدون على أنفسهم لافتكاك حريتهم وحقهم من النظام الطاغي.
ومن المنظور الواقعي لما يجري في إطار العلاقات الدولية لا يثير هذا الخذلان الاستغراب على الإطلاق، لأن الكل يدرك أن المقصود بالخطوط الحمراء الأمريكية والإسرائيلية للأسد هو إمكانية استعمال تلك الأسلحة ضد إسرائيل فقط أما ما دون ذلك فهو مباح بعدما استباح دماء السوريين بالصواريخ التي تنهال على مدنهم وقراهم منذ قرابة السنتين، وقد فهمت إيران الرسالة جيدا حيث خرج وكيلها حسن نصر الله في حوار تلفزيوني على قناة الميادين نفى فيه إمكانية استعمال حزبه الأسلحة الكيماوية بحجة أنها محرمة شرعا. إذاً بعد كل هذا لا يعقل الحديث عن مواجهة يكون الغرب هو البادئ فيها رغم كل التحرشات السورية ضد تركيا والتي لم تقابل بردود أقوى وبقيت محصورة في إطار الإنذارات.
حرب بدون نيران
التصريحات شبه الدورية للقادة الإسرائيليين عن شنّ حملة عسكرية ضد طهران بسبب برنامجها النووي يفترض أنه يعزز من إمكانية تحول ما يجري في سوريا إلى حرب إقليمية، لكن وعند المقارنة بين هذه التهديدات الإسرائيلية لإيران مع السلوك الإسرائيلي تجاه القدرات النووية العربية نجد أن إسرائيل استهدفت سنة 2007 ما قيل أنه مشروع مفاعل نووي سوري في دير الزور دون أي سابق إنذار، كما استهدف قبل ذلك بعقدين من الزمان المفاعل النووي العراقي.
أما النووي الإيراني فقد مضت أكثر من عشر سنوات على اكتشاف أنه مشروع عسكري نووي، وإسرائيل لا تتوقف عن إطلاق التهديدات ضده وخاصة كلما يقترب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وآخر تلك التهديدات ما فعله رئيس الوزراء نتنياهو في الأمم المتحدة واضعا خطا أحمر عند التسعين في المائة، ذلك الخط الأحمر الذي لم نشهده في المشاريع النووية الأخرى التي استهدفتها في دول عربية رغم أنها لم تبلغ حتى العشرة بالمائة، والسؤال الذي يطرح لماذا تقصف المشاريع النووية العربية بينما توضع خطوط حمراء على الورق وتحذيرات كلامية فقط على النووي الإيراني؟
الجواب على هذا السؤال يأتي من السودان حيث استهدفت إسرائيل مصنعاً للأسلحة هناك بحجة دعم حماس، وقد قرأ البعض في ذلك رسائل لإيران نظرا لأن المسافة بين إسرائل والسودان هي نفسها التي تفصلها عن إيران، ومع أن هذا التحليل وارد لكنه غير مرجح كون الحسابات العسكرية لها اعتبارات أخرى تتعلق بالإمكانيات العسكرية الإيرانية وغيرها من التفاصيل، ولكن ما يهم في الموضوع هو وصول سفينتين بحريتين إيرانيتين إلى موانئ السودان في اليوم التالي وإدانة النظامين للعملية، وتأكيدهما على تعزيز التعاون، وهنا أيضا إذا سلمنا جدلا أنها رسائل إلى إيران فهي تتم على الساحة العربية دائما، والأهم من ذلك أنه لم يعد خافيا الدور الذي لعبته إسرائيل في تقسيم جنوب السودان والعلاقات بين الطرفين أكبر دليل على ذلك، وهذا يدخل في إطار مواصلتها تطويق العالم العربي من أطرافه.
هذه الاستراتيجية تقوم على بناء علاقات استراتيجية مع تركيا وإيران وإثيوبيا، إلى جانب إضعاف الدول العربية، وسياسة طهران لا تختلف عن ذلك، مما يوجد حالة من تبادل الخدمات مع الكيان الصهيوني وإن بشكل غير مباشر، لهذا السلوك نجد الإسرائيلي مختلفاً تماما مع إيران عن سلوكها مع الدول العربية ما يؤكد استمرار سياستها بتطويق الأمن القومي العربي بنفس الإستراتيجية منذ عهد الشاه، اللافت أن إيران برغم أنها تتزعم محور الممانعة توسع نفوذها في كل إفريقيا جنبا إلى جنب مع الكيان الصهيوني دون صدام، والمؤسف أن تجد في ذلك بعض الأنظمة والحركات على غرار النظام السوداني - التي تبحث عن شرعيتها في مواجهات خارجية - مادة تروج بها هي الأخرى البروبجاندا.
جدير بالذكر في هذا السياق أن المناورات العسكرية التي تجريها إيران من حين لآخر هي مناورات دفاعية في حالة ما إذا تعرضت للهجوم، أما أن تبادر هي إلى الهجوم فهذا ما يستبعد حصوله ولنا تجربة في العدوانين على غزة وعلى جنوب لبنان.
خلاصة
الحرب الإعلامية في الفضائيات من خلال التصريحات والبيانات السياسية تدور حول موضوعي الحرب على سورية والبرنامج النووي الإيراني، ويتناوب في إطلاقها قادة إيران العسكريون والسياسيون، مع إسناد من نصر الله وبشار الأسد تتخللها أحيانا مناورات عسكرية أو مجازر حقيقية، وفي الجهة الأخرى تقوم حملات موسمية أمريكية وإسرائيلية وفي الوسط نشهد استعراضات روسية يحسن بقايا اليسار من أتباع إيران وبعض القومجيين صياغتها في برامج إعلامية مشروخة.
وقد تكون الطائرة بدون طيار التي أرسلها حزب الله إلى إسرائيل أفضل نموذج يكشف حقيقة اللعبة وطبيعة العداء بين الجمهورية الإسلامية والكيان الصهيوني، فالسلوك في ظاهره حربي وخطير وتهديد للأمن القومي للكيان الصهيوني، ولكن لا توجد أي خسائر وكل طرف حقق العديد من المكاسب داخليا وفي المنطقة، هذا السلوك هو ما ظلت عليه العلاقة بين الطرفين برغم البروبجندا الإعلامية.
تأسيسا على كل هذا فإن حديث طهران عن حرب عالمية ثالثة يضاف إلى سلسلة الأحاديث التي دأبت عليها منذ سنة 1979 والتي تهدف إلى ملء الفضاء الإعلامي بالكثير من الدخان للترويج لمشروعها الشعبوي والتغطية على صفقاتها ومفاوضاتها مع الولايات المتحدة وإسرائيل، فمع تراكم جرائم النظام الأسدي لم يعد يملك طابور إيران غير إطلالات المسؤولين الإيرانيين الإعلامية ومناوراتهم في الخليج واتهاماتهم لهذا الطرف أو ذاك، وفي النهاية ورغم الأهمية الإستراتيجية لسورية بالنسبة لإيران إلا أنها تبقى مجرد ورقة ستظل متمسكة بها حتى اللحظة الأخيرة ولكنها لن تغامر بحرق يدها إذا ما وصلت النيران لأصابعها.