يوم السقيفة يوم تجلّت فيه الشورى وتألّق الحوار (2)
السبت 10 أبريل 2010

د. حامد الخليفة

خاص بالراصد

 

مكان سقيفة بني ساعدة ومكانتها

قال الجوهري: السقيفة الصُفّة، ومنه سقيفة بني ساعدة، وقال أبو منصور: السقيفة كلّ بناء سقف به صُفة؛ أو شبه صُفة، مما يكون بارزاً، ألزم هذا الاسم؛ للتفرقة بين الأشياء، وأما بنو ساعدة الذين أضيفت إليهم السقيفة؛ فهم حيٌّ من الأنصار وهم بنو ساعدة بن كعب بن الخزرج ابن حارثة بن ثعلبة بن عمرو[1].

وقرية بني ساعدة عند بئر بُضاعة، والبئرُ وسط بيوتهم، وشمالي البئر اليوم إلى جهة المغرب بقية أُطم "حصن" يقال: إنّه من دار أبي دجانة رضي الله عنه الصغرى التي عند بئر بضاعة ... وليست الناحية معروفة اليوم[2]، وكان النّبي صلى الله عليه وسلم بصق فيها ودعا لها، وهذه البئر كانت لبني ساعدة وهم من الخزرج، قال المرجاني في تاريخه: والظاهر أنّ بُضاعة رجل أو امرأة تنسب إليه البئر، وكان موضعها ممر السيول فتكمح الأقذار من الطرق إليها، لكن الماء لكثرته لا يؤثر ذلك فيه، قال أبو داود في السنن: سألت قيّم بئر بضاعة عن عُمقها، فقلت: أكثر ما يكون فيها الماء ؟ قال: إلى العانة. قلت: فإذا نقص. قال: دون العورة. قال أبو داود: قد ذرعتُ بئر بُضاعة برداء مددته عليها، ثم ذرعته فإذا عرضه ستة أذرع، وسألت الذي فتح باب البستان فأدخلني إليه: هل غُيّر بناؤها عما كانت عليه؟ فقال: لا. ورأيت فيها ماءً متغير اللون[3]. قال: ابن العربي: وهي في وسط السبخة، فماؤها يكون مُتغيراً من قرارها. قال المُحبّ بن النجار: وماؤها عذب طيب، صاف أبيض، وريحه كذلك، ويُستقى منها كثيراً، قال: وذرعتها فكان طولها أحد عشر ذراعاً وشبراً، منها ذراعان راجحة ماء؛ والباقي بناء، وعرضها ستة أذرع كما ذكر أبو داود، قال الجمال المطري: وهي اليوم في ناحية حديقة شمالي سور المدينة وغربي بئر بيرحاء إلى جهة الشمال، يستقي منها أهل الحديقة، والحديقة في قبلة البئر ويستقي منها أهل حديقة أخرى شمالي البئر، والبئر وسط بينهما[4].

وكان أحد منازل بني ساعدة شرقي سوق المدينة، والسوق كان مقابرهم، وأنّ جرار سعد التي كان يُسقى فيها الماء – عن روح والدته بعد وفاتها - سدها جهة الشام، وبها منزل رهطه، وأنّه كان في دار السوق من المشرق لبني ساعدة طريق مبوبة، فهذا المسجد كان في هذه الناحية، والسقيفة كانت قرب شامي سوق المدينة، وغلط رُزين فقال: إنها بقباء "مسجد بني ساعدة الخارج من بيوت المدينة" ولابن شبة بن سعد بن إسحاق أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم صلى في مسجد بني ساعدة الخارج من بيوت المدينة أي بمنزلهم الآخر شامي جرار سعد، قرب ذباب[5] وذباب جبل في المدينة[6].

     وكان النّبي صلى الله عليه وسلم يجلس ـ أحياناً ـ في سقيفة بني ساعدة التي عند المسجد هو وأصحابه رضي الله عنهم، كما هو مذكور في الصحيح في حديث الجوينية، قال سَهْل بن سعد رضي الله عنه: (ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ فَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَقَدِمَتْ فَنَزَلَتْ فِي أُجُمِ - حصن - بَنِي سَاعِدَةَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَاءَهَا فَدَخَلَ عَلَيْهَا؛ فَإِذَا امْرَأَةٌ مُنَكِّسَةٌ رَأْسَهَا، فَلَمَّا كَلَّمَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَت: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْك، فَقَال صلى الله عليه وسلم: "قَدْ أَعَذْتُكِ مِنِّي"، فَقَالُوا لَهَا: أَتَدْرِينَ مَنْ هَذَا؟ قَالَت: لا، قَالُوا: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ لِيَخْطُبَكِ، قَالَت: كُنْتُ أَنَا أَشْقَى مِنْ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ حَتَّى جَلَسَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: "اسْقِنَا يَا سَهْلُ"، فَخَرَجْتُ لَهُمْ بِهَذَا الْقَدَحِ فَأَسْقَيْتُهُمْ فِيهِ، فَأَخْرَجَ لَنَا سَهْلٌ ذَلِكَ الْقَدَحَ فَشَرِبْنَا مِنْهُ، قَالَ: ثُمَّ اسْتَوْهَبَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعْدَ ذَلِكَ فَوَهَبَهُ لَهُ)[7].

    فيتبين من هذا أنّ سقيفة بني ساعدة كانت معروفة للصحابة رضي الله عنهم، وكانوا يرتادونها ويجلسون فيها، ويتحدثون ويتشاورون ويطعمون ويشربون، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أيضاً ـ كان يجلس فيها، فهي مكان كريم عند المسلمين، وصاحب السقيفة سعد بن عبادة رضي الله عنه جُبِلَ على خدمة المسلمين وإكرامهم، فالجلوس في السقيفة ليس بدعة، واللقاء فيها ـ وعلى أوسع نطاق ـ؛ معتاد معلوم مشهود، يَسرُ المؤمنين ويسعدُهم، ويغيظ المنافقين ويفضحهم، وبالتالي فلقاء الأنصار في السقيفة، كان أمراً معتاداً وليس فيه أيّ شبهة؛ كما يريد أن يصور ذلك المغرضون، فدار بني ساعدة وسقيفتهم من خيار دور الأنصار، والجلوس فيها لم يأت على المسلمين إلا بالخير، فعن أبي أسيد الساعدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو عبد الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة؛ وفي كلّ دور الأنصار خيرٌ)[8].

    ونظراً لهذه المكانة والشهرة التي تتمتع بها سقيفة بني ساعدة عند المسلمين؛ عمل أعداء الوحدة والعقيدة على نزع تلك المكانة السامية، وتصوير الأمور على غير حقيقتها، حتى قادهم ذلك إلى الطعن في عامّة المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم الذين أنجزوا بيعة السقيفة؛ التي أثمرت وحدة الأمة وسلامة عقيدتها، واتهامهم ـ حاشاهم رضي الله عنهم ـ بالتآمر والتحزب والتشاجر، وما شابه ذلك من أباطيل؛ تُعبّر في حقيقتها عمّا في نفوس خصوم الصحابة من أماني فاسدة وأحقاد كامنة، وتؤكد إفلاس مشاريعهم العدوانية، وإحباط خططهم الباطنية، وإلا كيف يبغضون الوحدة واجتماع الأمّة وانقيادها لخليفة نبيها صلى الله عليه وسلم الذي أسس لمبدأ محاسبة الحاكم، وأن لا يمتاز عن غيره من أبناء رعيته، وأن يشاركهم حياتهم في كلّ ألوانها؟ وهذا ما أغضب أعداء الخلافة الراشدة ممن يصنع بأحقاده مراجع وهمية لمنافسة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، الذين حققوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن يد الله مع الجماعة، والفذ مع الشيطان، وإنّ الحقّ أصل في الجنة، وإن الباطل أصل في النار، ألا وإنّ أصحابي خياركم فأكرموهم، ثم القَرنَ الذين يَلُونهم، ثم القَرنَ الذين يَلُونهم، ثم يظهر الكذب والهرج )[9]، وهذا موافق لما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ)[10]. وعن عرفجة بن شريح الأشجعي قال: سمعت النّبي صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون بعدي هنات وهنات، فمن رأيتموه فارق الجماعة، أو يُريد أن يفرِّق بين أمّة محمد صلى الله عليه وسلم وأمرهم جميع، فاقتلوه كائناً من كان، فإن يد الله مع الجماعة، وإن الشيطان مع من فارق الجماعة يرتكض )[11]؛ فهل هناك من هو أخطر على الأمة ممن ينشر ثقافة الكراهية ضد أئمة الشورى والحوار والوحدة ؟ فهذه النصوص تبين أنّ الذين رفضوا خلافة أبي بكر رضي الله عنه؛ فارقوا الجماعة وارتكسوا مع الشيطان، ولا زالت فِرقهم الهدّامة تعملُ على تفريق الأمّة وتسعير الفتن بين أبنائها، وتُشرّع التعاون مع أعدائها، كما أن العمل بهدي مثل هذه النصوص يفرض على كلّ مسلم أن يكون حازماً حاسماً في العمل على مواجهة هذا الشرّ المتلون المتمدد المتجدد، وفضح وسائله وأداواته التي تعمل على تمزيق وحدة المسلمين، وتهديد أخوتهم وسلامة عقيدتهم، ونسف إنجازات المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم الذين مارسوا الشورى والحوار على أجمل وجه وأكمله، وحققوا الوحدة وحفظوا السُّنّة، وأسسوا لأوسع مشروع حضاري في الفتوح ونشر الإسلام بعدله وعالميته ورحمته، فأثلجوا صدور الموحدين وأقرّوا عيون الصالحين، بقيادة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، الذي كانت مكانته معلومة سامية عند الصحابة رضي الله عنهم، كما كان مكان السقيفة معروفاً عندهم، وذلك أنهم عايشوا وسمعوا وشاهدوا تقديم النّبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه، وإشراكه له في إدارة الأحداث وصناعة مستقبل المسلمين، فضلاً عمّا عندهم من نصوص تؤكد تلك المكانة وتدعو إلى نصرتها واتباعها؛ وطاعتها التي تسرّ الصالحين وتغيظ أعداء الصحابة الذين أعلنوا الحرب على قادة الأمّة وإنجازاتهم المباركة، وعملوا على التشكيك بمصداقيتهم وإخلاصهم، كلّ ذلك لصرف الناس عن دين الكتاب والسُّنة!! إلا أنّ الناظر في النصوص والمواقف التي أسبغها رسول الله صلى الله عليه وسلم على خليفته الصدّيق رضي الله عنه تجعل كلّ من يخالف إنجازات يوم السقيفة، أو يشكك فيها، أو يرفض خلافة أبي بكر رضي الله عنه، أو يتعاون مع الخارجين عليها تحت أي ذريعة كانت؛ تجعله في قفص الاتهام متعاوناً مع المرتدين، ومتواطئاً مع الغزاة والمحتلين، الذين لا زالت الأحداث تثبت أنّهم في خندق واحد؛ يستهدفون أمن الأمة وهويتها، وإنْ تعددت غاياتهم ومنابرهم؛ أو تلونت راياتهم ووسائلهم.

 



[1] - ياقوت الحموي، معجم البلدان ، 3/229.

[2] - ابن الضياء المكي، تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام والمدينة الشريفة والقبر الشريف، تحقيق: علاء إبراهيم ، أيمن نصر، ص371.

[3] - سنن أبي داود: ح (61).

[4] - تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام والمدينة الشريفة والقبر الشريف: 345.

[5] - السمهودي: الوفا بأخبار دار المصطفى، 1/249. وعن ذباب ينظر ابن شبة: تاريخ المدينة، 1/41.

[6] - الزمخشري: الجبال والأمكنة والمياه، موقع الوراق، 10.

[7] - صحيح البخاري، (5206).

 

[8] - صحيح البخاري، ( 3505 ).

[9] - الطبراني: المعجم الأوسط، تحقيق: طارق بن عوض الله، عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، ح (6405) قالا: "لا يروى هذا الحديث عن مالك الأشتر إلا بهذا الإسناد، تفرد به عمرو بن خالد".

[10] - صحيح البخاري، (2458) صحيح مسلم، ( 4600).

[11] - ابن حبان، ح (4577). وينظر الألباني: صحيح وضعيف سنن الترمذي، (2166) وصححه.

 

 
 
 
 
الاسم:  
عنوان التعليق: 
نص التعليق: 
أدخل الرموز التالية: