فاطمة عبد الرءوف – كاتبة مصرية
خاص بالراصد
هناك دائما مساحة بين المكتوب والمعلن فيما يتعلق بقضايا الأسرة والسكان في مجتمعاتنا الإسلامية وبين الهدف الحقيقي الذي يتم العمل لترسيخه وإقراره، فلو أخذنا قضية تحديد النسل وتقليل الخصوبة سنجد أن اللافتة الكبيرة الواضحة هي "تنظيم الأسرة " حيث الحفاظ على صحة الأم والطفل عن طريق المباعدة بين الولادات ولكن عندما يوضع طفلان كشعار للحملة فإن الرسالة واضحة وإن كانت غير مكتوبة بل وغير ملفوظة، إن الصورة المثالية للأسرة التي نريدها وندعو إليها هي الاكتفاء بطفلين اثنين .. في أحيان أخرى يتم تهديد الأسر التي يزيد عدد أطفالها عن اثنين من حرمان الأبناء بدءا من الثالث من حقهم في الدعم والتعليم المجاني.
عندما يتم مواجهة مسئول محلي بأن تحديد النسل غير جائز شرعا تراه يرد بانفعال وتأثر ويقول نحن لا ندعو لتحديد النسل أبدا إنما نحن فقط ندعو لتنظيم الأسرة .. هذه السياسة المراوغة تجعل القائمين المحليين على مثل هذه المشروعات في وضع آمن حيث لا يصطدمون بشكل مباشر مع الشريعة وفي الوقت ذاته يمضون قدما بتنفيذ المخطط فالعبرة في المحصلة النهائية ليست في اللافتة أو المصطلح وإنما بالواقع الفعلي الموجود على الأرض والذي يجب أن نعترف أن مشروعات تحديد النسل قد حققت الكثير من النجاحات فيه خاصة في البلدان المستهدفة بصورة أساسية كمصر والجزائر.
المشكلة الحضارية
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: ما هي الغاية البعيدة لدى صانع القرار الغربي كي يضع قضية تنظيم الأسرة أو ما يطلق عليه السياسات السكانية كأحد المحاور المركزية في المؤتمرات الدولية، وما الذي يدفعه لهذا التمويل السخي لمشروعات تحديد النسل حيث من السذاجة تصور أن هذه مساعدات إنسانية لتنمية المجتمعات التي تأخرت حضارياً بسبب الاحتلال العسكري والاقتصادي وأن ضمير العالم الحر يحاول تعويض مثل هذه المجتمعات ومثل هذا الكلام الذي يردده البعض دون استحياء.
فالحقيقة الواضحة أن الغرب لديه مشكلة حادة تهدد مستقبله الوجودي وأن السياسات السكانية الجديدة هي إحدى الأدوات التي قد تساهم في حل مشكلته أو تأخير وقوعها فبينما كان عدد سكان أوروبا بالنسبة لعدد سكان العالم نحواً من 15% في خمسينيات القرن المنصرم فإن نسبتهم الحالية لا تتجاوز 10% والأمر قابل للتصاعد فمن المتوقع أن يبدأ عدد سكان أوربا في التناقص بدءا من العام 2020 حيث عجزت كل السياسات التي تدعو لزيادة عدد السكان الأوربيين لأسباب متعددة يأتي على رأسها الفردية التي هي نواة الفكر الليبرالي وحيث المنافسة والمسابقة المحمومة في كل مجالات الحياة وحيث تم تحطيم فكرة الأسرة والعائلة وحيث بلغ الفكر النسوي مداه المتطرف وحيث لم يعد الرجل يعنيه أن ينفق على زوجته وأطفال ولم تعد المرأة قادرة على مثل هذه التضحية - أن تنجب أطفالا - حتى لا تتأخر في سلمها الوظيفي وطموحاتها الشخصية.
ولكن الرؤية الغربية الاستراتيجية البعيدة تدرك الخطر الحضاري المحدق بهم إذا استمر تناقص معدلات السكان بهذه الطريقة حيث أصبحت الشريحة العمرية (أقل من 15 عاما) هي الأقل على المستوى العالمي بينما أصبحت الشريحة العمرية (أكبر من 65 عاما) هي الأكبر على المستوى العالمي ومن ثم شاع وصف القارة الأوربية بالقارة العجوز.
إزاء ذلك فلا بد من أن الفراغ السكاني في أوربا سيملأ حتما بواسطة طوابير النازحين من شمال أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا وشبه القارة الهندية، أو كما يقول الأستاذ فهمي هويدي نقلا عن جان كلود شيزنيز مدير المركز القومي للدراسات السكانية في باريس الذي قال بصراحة: إن أوربا مهددة بالأسلمة أو الأفرقة، من جراء زحف جيوش المسلمين والأفارقة إليها.
إن القراءة الاستراتيجية للمستقبل تنذر بكارثة حضارية ستحيق بدول الشمال نتيجة الخريطة السكانية (وقد أوضح الأستاذ فرانك نوتشتين – وقد كان مديرا لمركز البحوث السكانية في جامعة برنستون، ثم رئيسا للجنة الإسكان في الأمم المتحدة - في لحظة صدق : أنه يجب "إعداد برامج للحد من النمو السكاني في نصف الكرة الجنوبي، وإلا فإن التقدم الاقتصادي في هذه الأصقاع سيؤدي إلى قيام عالم في المستقبل تتحول فيه الدول المسيطرة حاليا إلى أقلية يتضاءل وزنها باطراد، ويقل بالتالي باطراد نصيبها من ثروة العالم، وتقل قدرتها على التحكم فيه. إن تحديدنا لسياستنا القومية نحو المناطق المتخلفة يجب أن يتحقق في ضوء هذه الحقيقة")().
الأجيال القادمة الفتية ستتركز إذن في بلادنا وسيروعها ولا شك الفقر والاستغلال الذي تعيش فيه بلادهم بينما من امتص دماءنا وبنى نهضته الحديثة يحيى كقلة مترفة هرمة ومن ثم سيحدث حراك ديموجرافي يتبعه حراك حضاري يفتح فصلا جديدا من فصول التاريخ (وفي هذا الاتجاه نفسه كتب جان كلود شسنيه – مدير المعهد الوطني للدراسات السكانية في باريس – "إن أوربا تواجه غلبة المسلمين عليها والأفارقة، مع اتساع الفجوة السكانية والاقتصادية بين شمال البحر المتوسط وجنوبه، فمع تركز الثراء في الشمال الأوربي سيتحرك الناس من الجنوب إلى الشمال .. وفي الجنوب ستبزغ قوى فتية بفضل الزيادة في حجم سكانه التي تبعث الحيوية، وفي المقابل فإن قوى الشمال الهرمة ستذوي مع النقص في عدد السكان")().
وقد عبر عن هذا المعنى قبل ذلك بحث أعده الصهيوني هنري كيسنجر عندما كان مستشارا للأمن القومي في الولايات المتحدة حين اعتبر زيادة السكان في العالم الثالث تهديدا للأمن القومي الأمريكي، ووصل في هذا البحث إلى ضرورة التركيز بشكل خاص على تخفيض النمو السكاني في ثلاث عشرة دولة، حددها، منها سبع دول إسلامية، على رأسها مصر، أو فيها أقلية مسلمة كبيرة مثل الهند، وقد كانت مذكرة كيسنجر هذه ممنوعة من التداول والنشر حتى عام 1990().
يؤكد هذا المعنى أيضا الأستاذ فهمي هويدي حيث يقول : (منذ عدة عقود وعلماء السياسة والاجتماع في أوربا والولايات المتحدة يحذرون من المصير الذي ينتظر نفوذ القارتين ومكانتهما في العالم، إذا ما استمرت معدلات النمو السكاني في الكرة الأرضية كما هي عليه دون ضبط أو تعديل. يقول جون بورجوا بيشا أحد مسئولي مركز الأبحاث السكانية الدولية في باريس "إذا استمر الوضع كما هو عليه فالمستقبل ينذر بكارثة كبيرة" إذ في حين تتدهور الأوضاع السكانية في الغرب من جراء تدني معدلات الإنجاب بصورة غير مسبوقة في تاريخه، فإن الخصوبة العالية الحاصلة في العالم النامي تكاد تحدث "انقلابا في خريطة العام السكانية")().
فهل من المقبول أو من المنطقي أن كل هذه الدراسات السكانية والمستقبلية لا يكون لها صدى لدى صانع القرار الغربي فإذا كان لا يستطيع أن يجبر الرجل الغربي الفردى والمتشرنق حول ذاته والمرأة الغربية التي عاشت تجربة الثورة الجنسية وتجاوزت مرحلة الأمومة لتعيش ذاتها الفردية تحت راية الفلسفة النسوية بكل شطحاتها أن يزيدا من النسل فلا أقل من وقف النمو السكاني المرتفع على الضفة الأخرى، يقول الأستاذ فهمي هويدي: (هذه الخلفية تفسر الضغوط الفكرية التي تمارسها الدول الغربية مستخدمة في ذلك الأمم المتحدة لمحاولة وقف نمو العالم الثالث بكل وسيلة، ليس قلقا على عافيته، ولا سعيا إلى تنميته، وإنما دفاعا عن نفسه ودرءا للمخاطر التي يتخوف منها الغربيون إذا ما استمر نمو سكان العالم الثالث، وتراجع سكان العالم الصناعي والمتقدم)().
إنها مؤامرة ضد العالم الثالث والعالم الإسلامي بخاصة إذ من الواضح أن استشعار أوربا وأمريكا لخطر زيادة السكان في العالم الثالث يتضاعف عند نظرهم في المجال الإسلامي بوجه خاص.
علماء الحضارات هم أكثر من يدرك مفهوم دورة الحضارة وأن القوة البشرية الشابة ستقوم بتغيير المعادلة الحضارية وهو أمر مثير ولا شك للفزع لهذه القوى التي شيدت قدرا كبيرا من نهضتها من خلال مصّ الدماء والخيرات والاحتلال لبلداننا لذلك فإن صانع القرار الغربي ضالع في مخطط معقد لإرباك المنطقة الإسلامية عموما والعربية بحيث تتلاشى أسئلة النهضة حين تطرح أسئلة الوجود، وفي هذا السياق يتم العمل على عدد من المحاور التي تلتقي جميعها عند هدف تكريس التخلف وحصد الأرواح والبقاء في دائرة التبعية المطلقة من خلال:
- إثارة الفوضى في المنطقة من خلال دعم أنظمة فاسدة مستبدة ودعم جزئي للثورة عليها بحيث لا ينجح طرفا الصراع في حسمه، وإطالة مدى الحرب والفتنة وحصد الأرواح وتشريد الأطفال وتدمير البنى التحتية ومن ثم الإبقاء على المنطقة متخلفة ومحطمة وغير قادرة على النهوض الحضاري.
- الدعم اللا محدود للكيان الصهيوني المزروع في هذه المنطقة تحديدا للقيام بدور وظيفي حيوي لصالح الغرب.
- تصدير المنظومة القيمية الغربية لنا من خلال طريقين أساسيين:
أ - القوانين الملزمة التي تنبثق من توقيع الدول على الاتفاقات الأممية المتضمنة للقيم الغربية الهدامة.
ب - الدعاية المكثفة لهذا الفكر فالاقتناع هو أقصر طريق لتحقيق الهدف ومن ثم انصبت الدعاية على المنافع التي ستعود علينا كأفراد وأمم من اتباع سياسة تحديد النسل، فعلى المسار الفردي ترفع لافتات الصحة ونوعية مرفهة من الحياة بعيدا عن الفقر والحاجة، وعلى المسار الجماعي يتم الترويج أن تحديد النسل هو المعادل الموضوعي للتنمية وفقا للموارد المتاحة حتى أن دستور جمهورية مصر العربية لسنة 2014 ينص صراحة على الربط بين قضية تحديد النسل (معدلات نمو سكاني محددة) وبين الموارد المتاحة بالفعل حيث تنص المادة 41 على أن (تلتزم الدولة بتنفيذ برنامج سكانى يهدف إلى تحقيق التوازن بين معدلات النمو السكانى والموارد المتاحة، وتعظيم الاستثمار في الطاقة البشرية وتحسين خصائصها، وذلك فى إطار تحقيق التنمية المستدامة).
لقد أصبحت القضية السكانية هي أحد ركائز النهضة حتى أن وزير خارجية مصر سامح شكري اعتبرها تمثل حجر الزاوية في الخطط الوطنية للتنمية المستدامة، مؤكداً على التزام مصر بعملية المراجعة الدورية للمؤتمر الدولي للسكان والتنمية، وباستخلاص أفضل الأساليب لإنجاز ما تبقى من برنامج العمل، ومشيراً في هذا الصدد إلى استضافة مصر لمؤتمر المراجعة الإقليمي العربي حول السكان والتنمية في القاهرة في يونيو 2013 بهدف تقييم التقدم الذي تحقق في تنفيذ برنامج العمل، فضلاً عن مشاركة مصر الفعالة في مؤتمر المراجعة الإفريقي الذي عُقد في أديس أبابا في سبتمبر 2013 حول السكان والتنمية.
حرب الثقافة
على أن المساحة بين المعلن والمكتوب وبين العمل الواقعي في تناقص مستمر فالنجاح على أرض الواقع أغرى بالمزيد من الضغوط ومن إعلان ما كان مخفيا ودائما ما يبدأ الأمر بتبني الجمعيات غير الحكومية المواقف الأكثر تطرفا والدعوة إليها صراحة وتقديم أدبيات في هذا الصدد.
ومن الجدير بالذكر أن المؤتمرات الدولية للسكان تمنح مثل هذه الجمعيات أهمية كبيرة في وضع جدول الأعمال والقضايا التي ستناقش واتخاذ القرارات ثم المتابعة والمراقبة، وهذا نموذج لوقاحة الطرح الذي تقدمه مثل هذه التجمعات حيث الهجوم على ثقافتنا من أجل أن تتماشى مع مخططاتهم .. نموذج التجمع العربي الذي يتألف من تحالفات تعمل وطنياٌ وإقليمياٌ في قضايا حقوق الصحة الجنسية والإنجابية الذي أصدر بيانا يقيّم فيه موقف الدول العربية من تنفيذ مقررات لجنة الأمم المتحدة للسكان والتنمية منتقدا استخدام البعض لمصطلح النسبية الثقافية حيث يريدون صراحة إلغاء هذه الحواجز من أجل التطابق الكامل والتام مع المقررات الأممية التي هي وليدة الثقافة الغربية وحدها والمخططات الاستراتيجية الغربية وحدها وهذه فقرات من البيان:
(التجمع العربي يراقب عن كثب لغة الدول العربية الأعضاء خلال الدورة 47 للجنة الأمم المتحدة للسكان والتنمية. في هذه الدورة وحتى الآن نجد أن موضوع النسبية الثقافية في الخطابات يستخدم بمعدلات مثيرة للقلق.
لا بد من الإشارة إلى أن الثقافة هي عملية ديناميكية ومعقدة وليس لها معنى أو مفهوم واحد. والأهم من ذلك، أنه من غير المقبول استخدام الثقافة كمبرر لحرمان المرأة والشباب من حقوقهم، وتحديداً حقوق الصحة الإنجابية والجنسية. يتعين على الدول الأعضاء الالتزام بسنّ وتنفيذ القوانين والسياسات التي تحترم وتحمي الحقوق الإنجابية والجنسية لجميع الأفراد دون تمييز لأي سبب من الأسباب. وهذا يشمل ضمان الوصول المتكافئ إلى مجموعة شاملة، متاحة، ومتكاملة من الخدمات التي تعنى بالصحة الإنجابية والجنسية).
إنهم يزيدون الأمر وضوحا وصراحة وهم يربطون بين الصحة الإنجابية والجنسية ليس مع الراشدين والأزواج وإنما من أجل (إحقاق حصول جميع المراهقين والشباب على التعليم الجنسي الشامل في المدرسة وخارجها. ولا يمكن التذرع بالثقافة في حالات الزواج المبكر والزواج القسري، والاغتصاب الزوجي، والعنف الجنسي) .
إنهم يدعون صراحة للانحلال كوسيلة أكيدة لتحديد النسل عن طريق ما يطلقون عليه التعليم الجنسي الشامل في المدرسة وخارجها.
إنهم يرفعون عصا التهديد في وجوه الحكومات ويتحدّون سيادة الدول حتى تسرع في تنفيذ المطلوب (الدول العربية الأعضاء هم من الدول الموقعة على الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإعلان القاهرة: تحديات التنمية وديناميات السكان في العالم العربي المتغير، لذلك يجب عليهم تحمل مسؤوليات تنفيذ وتعزيز واحترام وحماية حقوق الأفراد في الصحة الإنجابية والسلامة الجسدية، فضلا عن التحرر من العنف وهذه الالتزامات لا يتم تجاهلها بادعاءات سيادية)().
- لمزيد من المعلومات عن التجمع العربي، يراجع موقعه على الشبكة العنكبوتية .. المبادرة المصرية للحقوق الشخصية.