د. عمر الأشقر رحمه الله()
مَن أوتي بصيرة في كتاب الله لم يحتج في مناقشة أهل الضلال إلى علم الكلام، ومنطق اليونان، وعلم الفلسفة، ففي كتاب الله غنى، كيف لا، وهو كتاب الله الذي وضح الدلائل، ونفى الضلال والباطل!! وإذا قصر الناس في الاستدلال من القرآن، وطلبوا الحجة من غيره فلقصور في عقولهم، وضعف في بصائرهم. وقد ذكر علماء التاريخ مناقشة أحد علماء السنة لقادة فتنة القول بخلق القرآن، فألقمهم حجراً، وأخزى حقُّه باطلَهم، وقد اعتمد في حجاجه على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حجاج قريب المأخذ، يدركه الناس بسهولة ويسر، وتستمع إليه فيأسرك روعة الاستدلال، وقوة الحجة.
حكى المسعودي عن علي بن صالح قال: (حضرت يوماً من الأيام جلوس المهتدي للمظالم، فرأيت من سهولة الوصول ونفوذ الكتب عنه إلى النواحي فيما يتظلم به إليه ما استحسنه، فأقبلت أرمقه ببصري إذا نظر في القصص، فإذا رفع طرفه إليّ أطرقت، فكأنه علم ما في نفسي.
فقال لي: يا صالح، أحسب أنّ في نفسك شيئاً تحب أن تذكره.
قال: قلت: نعم يا أمير المؤمنين.
فأمسك، فلما فرغ من جلوسه أمر أن لا أبرح، ونهض فجلستُ جلوساً طويلاً، فقمت إليه، وهو على حصير الصلاة، فقال لي: أتحدثني بما في نفسك، أم أحدّثك؟
فقلت: بل هو من أمير المؤمنين أحسن.
فقال: كأنني بك وقد استحسنت من مجلسنا، فقلت: أيّ خليفة خليفتنا، إن لم يكن يقول بقول أبيه، من القول بخلق القرآن. فقال (أي الخليفة): قد كنت على ذلك برهة من الدهر، حتى أقدم على الواثق شيخ من أهل الفقه والحديث من (أذنه) من الثغر الشامي، مقيداً طوالاً، حسن الشيبة، فسلم غير هائب، ودعا فأوجز، فرأيت الحياء منه في حماليق عيني الواثق الرحمة عليه. فقال: يا شيخ، أجب أحمد بن أبي دؤاد عما يسألك عنه.
فقال: يا أمير المؤمنين، أحمد يصغر، ويضعف، ويقل عند المناظرة فرأيت الواثق، وقد صار مكان الرحمة عضباً عليه.
فقال: أبو عبد الله يصغر ويضعف ويقل عند مناظراتك؟
فقال: هوّن عليك يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في كلامه؟
فقال الواثق: قد أذنت لك.
فأقبل الشيخ على أحمد فقال: يا أحمد إلى إلامَ دعوت الناس؟
فقال أحمد: إلى القول بخلق القرآن.
فقال له الشيخ: مقالتك هذه التي دعوت الناس إليها من القول بخلق القرآن أداخلة في الدين، فلا يكون الدين تامّاً إلا بالقول بها؟
قال: نعم.
قال الشيخ: فرسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إليها أم تركهم؟
قال: لا.
قال له: يعلمها أم لم يعلمها؟
قال: علمها.
قال: فلم دعوت إلى ما لم يدعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، وتركهم منه، فأمسك.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، هذه واحدة.
ثم قال له أخبرني يا أحمد، قال الله في كتابه العزيز: (اليوم أكملتُ لكم دينكم) [المائدة: 3]، فقلت أنت: الدين لا يكون تامّاً إلا بمقالتك بخلق القرآن، فالله تعالى عز وجل صدق في تمامه وكماله، أم أنت في نقصانك، فأمسك. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، وهذه ثانية.
ثمّ قال بعد ساعة: أخبرني يا أحمد، قال الله عز وجل: (يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك. وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) [المائدة: 67]، فمقالتك هذه التي دعوت الناس إليها، فيما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أم لا؟ فأمسك، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، وهذه ثالثة.
ثمّ قال بعد ساعة: خبرني يا أحمد، لما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالتك التي دعوت الناس إليها، أتسع له عن أن أمسك عنها أم لا؟
قال أحمد: بل، اتسع له ذلك.
فقال الشيخ: وكذلك لأبي بكر، وكذلك لعمر، وكذلك لعثمان، وكذلك لعلي رحمة الله عليهم؟
قال: نعم.
فصرف وجهه إلى الواثق، وقال: يا أمير المؤمنين، إذا لم يتسع لنا ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه فلا وسع الله علينا.
فقال الواثق: نعم، لا وسع الله علينا، إذا لم يتسع لنا ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه فلا وسع الله علينا. ثمّ قال الواثق: اقطعوا قيوده، فلما فكت جاذب عليها. فقال الواثق: دعوه، ثم قال: يا شيخ لم جاذبت عليها؟
قال: لأني عقدت في نيتي أن أجاذب عليها، فإذا أخذتها أوصيت أن تجعل بين يدي كفني، ثمّ أقول: يا ربي، سل عبدك: لم قيدني ظلماً، وارتاع بي أهلي؟
فبكى الواثق والشيخ وكل من حضر. ثمّ قال له: يا شيخ، اجعلني في حل.
فقال: يا أمير المؤمنين، ما خرجت من منزلي حتى جعلتك في حلّ اعظاماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقرابتك منه، فتهلل وجه الواثق وسرّ.
ثمّ قال له: أقم عندي آنس بك.
فقال له: مكاني في الثغر أنفع، وأنا شيخ كبير، ولي حاجة.
قال: سل ما بدا لك.
قال: يأذن لي أمير المؤمنين في رجوعي إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم.
قال: قد أذنت لك، وأمر له بجائزة، فلم يقبلها.
قال المهتدي: فرجعت من ذلك الوقت عن تلك المقالة، وأحسب – أيضاً – أن الواثق رجع عنها)().
- الاعتصام للشاطبي 1/ 324.