د. أنس سليمان المصري النابلسي
المطلب الرابع: طرق طرح مسائل النقاش عنده:
1: مقارنة معتقداتهم بمعتقدات الخوارج وتفضيل الخوارج عليهم:كقوله في الخوارج: ([2]) والبدع متنوعة فالخوارج مع أنهم مارقون يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم واتفق الصحابة وعلماء المسلمين على قتالهم وصح فيهم الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه رواها مسلم في صحيحه روى البخاري ثلاثة منها وهم ليسوا ممن يتعمد الكذب بل هم معروفون بالصدق حتى يقال: إن حديثهم من أصح الحديث لكنهم جهلوا وضلوا في بدعتهم ولم تكن بدعتهم عن زندقة وإلحاد بل عن جهل وضلال في معرفة معاني الكتاب. وأما الرافضة فأصل بدعتهم عن زندقة وإلحاد وتعمد الكذب كثير فيهم وهم يقرون بذلك حيث يقولون ديننا التقية وهو أن يقول أحدهم بلسانه خلاف ما في قلبه وهذا هو الكذب والنفاق.
وقال عنهم: ([4]) وهم لا يجعلون محمد بن أبي بكر بمنزلة أبيه بل يفضلون محمداً ويعظمونه ويتولونه لكونه آذى عثمان وكان من خواص أصحاب علي لأنه كان ربيبه ويسبون أباه أبا بكر ويلعنونه.
ولهذا كان الفساد الذي حصل في الأمة بقتل عثمان أعظم من الفساد الذي حصل في الأمة بقتل الحسين.
وهذا القول ليس مثل قول الرافضة من كل وجه، بل هو مشابه له من بعض الوجوه؛ لكونهم جعلوا كمال الدين موقوفاً على ذلك.([6])
4: مقارنة معتقداتهم بمعتقدات أهل السنة وتفضيل أهل السنة عليهم من كل وجه:قال شيخ الإسلام: فلا يوجد لأهل السنة قول ضعيف إلا وفي الشيعة من يقوله ويقول ما هو أضعف منه ولا يوجد للشيعة قول قوي إلا وفي أهل السنة من يقوله ويقول ما هو أقوى منه ولا يتصور أن يوجد للشيعة قول قوي لم يقله أحد من أهل السنة فثبت أن أهل السنة أولى بكل خير منهم كما أن المسلمين أولى بكل خير من اليهود والنصارى.([7])
قال شيخ الإسلام: ... فقال لهؤلاء –يعني القائلين بحدوث العالم- أئمة الفلاسفة وأئمة أهل الملل وغيرهم: ([8]) فهذا الدليل الذي أثبتم به حدوث العالم هو يدل على امتناع حدوث العالم وكان ما ذكرتموه إنما يدل على نقيض ما قصدتموه….
فلما تكلم شيخ الإسلام عن صفات الله وأفعاله ورد كلام الفلاسفة فيها، نقل بعد ذلك كلام ابن ملكا في الرد على الفلاسفة وإبطال كلامهم، مع كون ابن ملكا من أتباعهم، وهم سلفه، لكنه نقض أقوالهم في إبطال صفات الله وأفعاله، فاستشهد به شيخ الإسلام في هذا الموضع.([9])
وقالوا أيضاً للمعتزلة والشيعة: أنتم مع هذا عللتم أفعال الله تعالى بعلل حادثة فيقال لكم: هل توجبون للحوادث سبباً حادثاً أم لا؟ فإن قلتم: نعم، لزم تسلسل الحوادث وبطل ما ذكرتموه.
وطعن الخوارج في علي وخرجوا عليه، وأراد الشيعة أن يبرؤوه ويردوا عليهم، لكنهم سيعجزون في ردهم على الخوارج وإثبات إيمان علي وعدالته مع كونهم على مذهب الرافضة، ولا يمكنهم ذلك إلا إذا صاروا إلى مذهب أهل السنة.
فإن احتجوا بما تواتر من إسلامه وهجرته وجهاده فقد تواتر ذلك عن هؤلاء بل تواتر إسلام معاوية ويزيد وخلفاء بني أمية وبني العباس وصلاتهم وصيامهم وجهادهم للكفار فإن ادعوا في واحد من هؤلاء النفاق أمكن الخارجي أن يدعى النفاق وإذا ذكروا شبهة ذكر ما هو أعظم منها.
ومن أعظم ما ظهر في ذلك قول شيخ الإسلام: ([13]) وفضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلتين؛ سئلت اليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وسئلت النصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: حواري عيسى، وسئلت الرافضة: من شر أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم.
ومنها قول شيخ الإسلام: ([14]) وللكفار كاليهود مواضع يقولون إنهم يرون الخضر فيها وقد يرى الخضر على صور مختلفة وعلى صورة هائلة وأمثال ذلك وذلك لأن هذا الذي يقول إنه الخضر هو جني بل هو شيطان يظهر لمن يرى أنه يضله وفي ذلك حكايات كثيرة يضيق هذا الموضع عن ذكرها. وعلى كل تقدير فأصناف الشيعة أكثر ضلالاً من هؤلاء فإن منتظرهم ليس عنده نقل ثابت عنه ولا يعتقدون فيمن يرونه أنه المنتظر ولما دخل السرداب كان عندهم صغيراً لم يبلغ سن التمييز.
فالنصارى خرجوا عن الأصلين وكذلك المبتدعون من هذه الأمة من الرافضة وغيرهم.
والرافضة تجعل الأئمة الاثنى عشر أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وغاليتهم يقولون: إنهم أفضل من الأنبياء لأنهم يعتقدون فيهم الإلهية كما اعتقدته النصارى في المسيح.
والرافضة تزعم أن الدين مسلم إلى الأئمة فالحلال ما حللوه والحرام ما حرموه والدين ما شرعوه.
وشبّه اعتقادهم بتفضيل علي على الصحابة وغلوهم في قدره بتفضيل النصارى عيسى على باقي الأنبياء وتفضيلهم إياه على إبراهيم وموسى، وطعنهم وتكذيبهم لأبي بكر وعمر والتكلم فيهم هو من جنس كلام اليهود والنصارى في محمد و الطعن فيه واتهامه.([16])
سادسها: مقارنة معتقدات الفرق بعضها ببعض والمفاضلة بينها:فلما عرض مذهب الفلاسفة المتكلمين في مسألة قدم الأفلاك، وصفات الله تعالى، وذكر جوانب الخطأ والصواب عند الفرق الأخرى، قارن بينها وذكر أيها أقرب للصواب مع أن كلا الفريقين اعتبره ملحداً في مقالته، فأنكر على من نفى الكلام عن الله تعالى مطلقاً وهم الفلاسفة وابن سينا، وخطّأ الرأي الآخر القائل بأن الرسل إنما تكلم بما قاله الله على سبيل التمثيل والتخييل للحاجة كابن رشد.
ثم قارن بين كلام ابن رشد وأبي حامد الغزالي، ورجح كلام أبي حامد على ابن رشد، وإن كان في كلام أبي حامد ما هو خطأ، لكنه فضّل كلامه على كلام ابن رشد؛ لكون ابن رشد إنما بنى كلامه على أصول كلامية فاسدة، مثل كون الرب لا يفعل شيئاً بسبب ولا لحكمة.([18])
ثم ذكر أن هذا ما جعل اليهود والنصارى أن يعتقدوا أن أصل خلق الإنسان من طين وأنه خلق الملائكة، وهذا ما لا يوافقهم عليه الفلاسفة، فاليهود والنصارى في هذا أفضل من أولئك الملحدين.
وهؤلاء الدهرية شر منهم في ذلك فإن قولهم يستلزم إخراج جميع الحوادث عن خلق الله وقدرته وإثبات شركاء كثيرين له في الملك بل يستلزم تعطيل الصانع بالكلية.
سابعها: العدل مع الخصوم واتباع الحق في طرحه للمسائل:امتثالاً لقوله تعالى: "ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا"، فقد نقل عن أبي القاسم الطبري في كتابه شرح أصول السنة كلاماً في ذم الرافضة من طرق متعددة عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول، ثم قال: لكن عبد الرحمن بن مالك بن مغول ضعيف. ثم قال: وقد صح ذلك عن غيره كالشعبي وغيره من طرق أخرى ثابتة.([21])
ومعلوم أن للتاريخ دور كبير في نقد الحديث وبيان علله.
قال شيخ الإسلام: ([23]) فقول القائل إنهم يقولون إن المطيع لا يستحق ثواباً إن أراد أنه هو لا يوجب بنفسه على ربه ثواباً ولا أوجبه غيره من المخلوقين فهكذا تقول أهل السنة وإن أراد أن هذا الثواب ليس أمراً ثابتاً معلوماً وحقاً واقعاً فقد أخطأ وإن أراد أنه هو سبحانه وتعالى لا يحقه بخبره، فقد أخطأ على أهل السنة، وإن أراد أنه لم يحقه بمعنى أنه لم يوجبه على نفسه ويجعله حقاً على نفسه كتبه على نفسه فهذا فيه نزاع قد تقدم
ولما ادعى الرافضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الولاية والإمامة لعلي، واستدل بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنت مني وأنا منك".
فأقر شيخ الإسلام قول الرافضي لصحته، ثم ناقشه في طريقة فهمه للحديث فقال: وقال لجعفر: أشبهت خلقي و خلقي، وقال لزيد: أنت أخونا و مولانا، وقال للاشعريين: هم مني و أنا منهم، كما قال لعلي: أنت مني وأنا منك، وقال لجليبيب: هذا مني وأنا منه، فعلم إن هذه اللفظة لا تدل على الإمامة ولا على أن من قيلت له كان هو أفضل الصحابة.
ثامنها: طرح جميع الاحتمالات العقلية ومناقشتها:وهذا يكون في المسائل العقلية المحضة، فإن الشيخ يقوم بوضع جميع الفرضيات واحتمالات النقد ثم مناقشتها من الوجوه المختلفة، فيقول: فإن قيل:...، قيل:...، وهكذا حتى يأتي على جميع الاحتمالات العقلية المقبولة.
وأمثلة ذلك كثيرة عنده يصعب حصرها؛ ذلك أنه أسلوب عام عنده.
تاسعها: الاستدلال بالآيات والأحاديث:معلوم أن الشيعة الروافض لا يقرون أهل السنة على الأحاديث التي يحتجون بها، ولا يعتمدون عليها، كما لا يقرون بكثير من تأويل الآيات القرآنية التي يؤولها أهل السنة، ونرى شيخ الإسلام كثيراً ما يحتج بالآيات القرآنية والأحاديث في النقاش العقلي المحض، ويستدل بها على الشيعة، وهذا له وجوه مختلفة:
والثاني: أن تلك الآيات والأحاديث بحد ذاتها لها الطابع العقلي الذي يناقشه شيخ الإسلام، كما ناقش الله تعالى الكفار بأدلة عقلية مماثلة في كتابه الكريم.
ثم بين شيخ الإسلام الحجة في ذلك؛ فبعد ذكره للأدلة التي يستدل بها أهل السنة على الرافضة قال:([27]) وهؤلاء وإن كانوا لا يقرون بصحة هذه الأحاديث فالمصنف قد احتج بأحاديث موضوعة كذب باتفاق أهل المعرفة فإما أن نحتج بما يقوم الدليل على صحته ونحن وهم أو لا نحتج بشيء من ذلك لا نحن ولا هم فإن تركوا الرواية رأساً أمكن أن نترك الرواية، وأما إذا رووا هم فلا بد من معارضة الرواية بالرواية والاعتماد على ما تقوم به الحجة ونحن نبين الدلائل الدالة على كذب ما يعارضون به أهل السنة من الروايات الباطلة والدلائل الدالة على صحة ما نقله أهل العلم بالحديث وصححوه. انتهى كلامه.
وقد استطرد في مسألة إثبات الخلافة لأبي بكر رضي الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق كثيراً من الأدلة النقلية الدالة على صحة هذا القول، ثم جاء بأدلة العلماء كابن حزم وأورد ما يوافق من الأدلة العقلية على ذلك، ثم سرد الأدلة التاريخية والأحداث التي دارت حول المسألة وأطال في تفصيلاتها، ورد كلام ابن المطهر وأمثاله في خطئهم على أبي بكر في هذا.([29])
عاشرها: الاستدلال عليهم من أصل قولهم وبيان تناقضاتهم:مثل ما أنكر عليهم في أن أصولهم العقدية أربعة: التوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة؛ فالإمامة آخر مراتب أصول الدين، فكيف يدعي ابن المطهر أن الإمامة أشرف وأهم أصول الدين عندهم؟.([30])
وقولهم: إن الإمامة لطف من الله، ومراعاة لهم بمصالح المسلمين، وأنها من أهم مطالب الدين، قال شيخ الإسلام: فإنهم قالوا في الإمامة أسخف قول وأفسده في العقل والدين...، فالله تعالى قد علق بولاة الأمور مصالح في الدين والدنيا سواء كانت الإمامة أهم الأمور أو لم تكن والرافضة أبعد الناس عن حصول هذه المصلحة لهم فقد فاتهم على قولهم الخير المطلوب من أهم مطالب الدين وأشرف مسائل المسلمين.([32])
قال شيخ الإسلام: ([33]) يقال له أولاً: من روى هذا الحديث بهذا اللفظ؟ وأين إسناده؟ وكيف يجوز أن يحتج بنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير بيان الطريق الذي به يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله؟ وهذا لو كان مجهول الحال عند أهل العلم بالحديث فكيف وهذا الحديث بهذا اللفظ لا يعرف؟.
ثاني عشرها: تنويع الرد بين عقلي ونقلي وتاريخي بما يناسب الشبهة المطروحة:فإن كانت الشبهة المطروحة عقلية فإن الرد يكون العمدة فيه على العقليات ونادراً ما يورد النقليات إلا إذا كانت تلك الآيات والأحاديث تتكلم بأسلوب عقلي منطقي، وإن كان الطعن من جهة الكتاب والسنة، وهذا قليل، فإنه يورد الأدلة النقلية لإثبات صحة ما ذهب إليه، أما إن كانت الشبهة من ناحية الطعن في التاريخ والأحداث التي جرت زمن الصحابة والتابعين، فإنه يرد على المنطق ذاته بأدلة تاريخية تثبت كذب ما افتراه الخصم.
قال شيخ الإسلام: ([35]) وأما قوله: ثم علي بمبايعة الخلق له.
وأما علي رضي الله عنه فإنه بويع عقيب قتل عثمان رضي الله عنه والقلوب مضطربة مختلفة وأكابر الصحابة متفرقون وأحضر طلحة إحضاراً حتى قال من قال: إنهم جاءوا به مكرهاً وأنه قال: بايعت واللج -أي السيف- على قفى.
ولما ذكر ابن المطهر أن يوم بدر قتل علي من المشركين ستة وثلاثين رجلاً يعني ما يزيد على النصف من القتلى، رد الشيخ بالأدلة التاريخية التي تنفي هذا القول وأن كثيراً من المشركين إنما قتلوا دون وجود علي رضي الله عنه وأن هذا من الكذب البين المفترى.
وأثبت شيخ الإسلام كذبه في قول جبريل عن سيف علي: لا سيف إلا ذو الفقار بأن ذو الفقار إنما كان لأبي جهل وغنمه المسلمون يوم بدر.([36])
ومثل رده على ابن المطهر الرافضي لما ادعى أن علياً كان يؤجر نفسه وينفق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الشعب.
و الثاني: أن أباه أبا طالب كان معهم في الشعب و كان ينفق عليه.
و الرابع: أن علياً لم يؤجر نفسه بمكة قط و كان صغيراً حين كان في الشعب إما مراهقاً و إما محتلماً فكان علي في الشعب ممن ينفق عليه إما النبي صلى الله عليه و سلم و إما أبوه لم يكن ممن يمكنه أن ينفق على نفسه فكيف ينفق على غيره؟!.
ثم ذكر على ذلك أنه لا ترد رواية المبتدع مطلقاً، ولا الصلاة خلفه إن لم تكن بدعته مكفرة، ومع ذلك فإنه من الخطأ أن لا ينكر على المظهرين لبدعتهم بهجر أو ردع.
ولما نقض كلام الفلاسفة في القول بعدم حدوث الأجسام، وأثبت القول الحق فيه، قال: ([40]) ومما يستفاد بهذه الطريق التي قررناها الخلاص عن إثبات الحدوث بلا سبب حادث والخلاص عن نفي ما يقوم بذات الله من صفاته وأفعاله.
ومما يستفاد بذلك الاستدلال على المطلوب من غير احتياج إلى الفرق بين الموجب بالذات والفاعل بالاختيار وذلك أن كثيراً من أهل النظر غلطوا في الفرق بين هذا وهذا من المعتزلة والشيعة وصار كثير من الناس كالرازي وأمثاله مضطربين في هذا المقام فتارة يوافقون المعتزلة على الفرق وتارة يخالفونهم وإذا خالفوهم فهم مترددون بين أهل السنة وبين الفلاسفة أتباع أرسطو.
ولما ذكر خطأ المعتزلة وأتباعهم من الشيعة في قولهم بنفي تسلسل الأحداث قال شيخ الإسلام: ولأجل ذلك وقعوا في أمور كثيرة، فقالوا: القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، والتزموا لأجل ذلك بأن الخالق لم يكن متكلماً، ولا متصرفاً بنفسه حتى أحدث كلاماً منفصلاً عنه، وجعلوا خلق كلامه كخلق السماوات الأرض.([41])
المطلب السادس: ربط العقليات الثاتبة بالشرعيات، وإثبات أن الشرع والعقل لا يتناقضان:فلما تكلم الشيخ عن الصفات وما فرّع الفلاسفة على هذه المسألة من أمور عقلية منافية للشرع والعقل أبطل حجتهم عقلاً، ثم ذكر بطلانها بالشرع وأنها تفريعات مبتدعة.
والذي نبهنا عليه هنا يعلم به دلالة العقل الصريح على ما جاءت به الرسل ولا ريب أن كثيراً من طوائف المسلمين يخطئ في كثير من دلائله ومسائله فلا يسوغ ولا يمكن نصر قوله مطلقاً بل الواجب أن لا يقال إلا الحق قال تعالى: "ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق".([43])
فأخبر أنه سيريهم الآيات الأفقية والنفسية المبينة لأن القرآن الذي أخبر به عباده حق فتتطابق الدلالة البرهانية القرآنية والبرهانية العيانية ويتصادق موجب الشرع المنقول والنظر المعقول. انتهى كلامه.
قال الشيخ: ([45]) ولكن الاستدلال على ذلك بالطريقة الجهمية المعتزلية طريقة الأعراض والحركة والسكون التي مبناها على أن الأجسام محدثة لكونها لا تخلو عن الحوادث وامتناع حوادث لا أول لها طريقة مبتدعة في الشرع باتفاق أهل العلم بالسنة وطريقة مخطرة مخوفة في العقل بل مذمومة عند طوائف كثيرة وإن لم يعلم بطلانها لكثرة مقدماتها وخفائها والنزاع فيها عند كثير من أهل النظر كالأشعري في رسالته إلى أهل الثغر ومن سلك سبيله في ذلك كالخطابي وأبي عمر الطلمنكي وغيرهم وهي طريقة باطلة في الشرع والعقل عند محققي الأئمة العالمين بحقائق المعقول والمسموع. انتهى كلامه.
وأخبر أنه "استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض آئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين".([48])
ولما ذكر مسألة أن الله تعالى ولو قدّر أن يعذب من يشاء لم يكن لأحد منعه، وناقش المسألة عقلياً ثم أثبت صحتها، ذكر بعد ذلك ما يوافقها من الآيات والأحاديث، ليثبت في ذلك أن العقل لا يتنافى مع الشرع، وأن كل ما يثبته العقل السليم فإنه ثابت شرعاً.
وهو سبحانه لو ناقش من ناقشه من خلقه يعذبه كما ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من نوقش الحساب عذب قالت قلت يا رسول الله أليس الله يقول: "فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحساب حساباً يسيراً". فقال: ذلك العرض ومن نوقش الحساب عذب.
وفي الحديث الذي رواه أبو داود وغيره: لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيراً لهم من أعمالهم. انتهى كلامه.
هذا أبرز ما ظهر لي من معالم منهجه في هذا الكتاب، ولعل من دقق النظر وعلل القراءة في صفحاته وفصوله استخرج من فوائده وفرائده أساليب أخرى من منهاجه، فرحمه الله تعالى، وأجزل له المثوبة.