هيثم الكسواني – كاتب أردني
خاص بالراصد
لم يُبتلَ المسلمون بشخص كما ابتُلوا باليهودي عبد الله بن سبأ، فعلاوةً على أنه واضع بذرة التشيع ومؤسس أول عقائده، كان وراء الفتنة الكبرى التي زعزعت الدولة الإسلامية، وفتحت باب الفتن، وأدّت إلى مقتل خليفة المسلمين، عثمان بن عفان، رضي الله عنه، في سنة 35هـ.
وعبد الله بن سبأ يهودي من أهل صنعاء باليمن، يُعرف بابن السوداء، نسبةً لأمه الحبشية، تظاهر بالإسلام ليهدمَه من الداخل، حين رآه يعمّ جزيرة العرب، وينتشر في ربوع العالم، وتخفق راياته على مشارق الأرض ومغاربها، "فأراد ابن سبأ هذا مزاحمة هذا الدين بالنفاق والتظاهر بالإسلام، لأنه عَرف، هو وذووه، أنه لا يمكن محاربته وجهًا لوجه، ولا الوقوف في سبيله جيشًا لجيش، ومعركةً بعد معركة، فإن أسلافهم بني قريظة، وبني النضير، وبني قينقاع جرّبوا هذا فما رجعوا إلاّ خاسرين، ومنكوبين، فخطط هو ويهود صنعاء خطة أرسل أثرها هو ورفقته إلى المدينة، مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وعاصمة الخلافة، في عصرٍ كان يحكم فيه صهرُ رسول الله، وصاحبه، ورضيّه، ذو النورين، عثمان بن عفان، رضي الله عنه، فبدؤوا يبسطون حبائلهم ويمدّون أشواكهم"().
الرجعة والوصيّة
بدأ ابن سبأ يجوب البلاد لتنفيذ مخططه بإضلال المسلمين، وأخَذ يخترع كلامًا من عند نفسه يلقيه إلى الناس، منه الزعم بأن النبي صلى الله عليه وسلم سيعود إلى الدنيا بعد الموت، فكان يقول في ذلك للرجل: أليْس قد ثبت أن عيسى بن مريم سيعود إلى هذه الدنيا؟ فيقول الرجل: بلى! فيقول له: فرسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه، فما تنكر أن يعود إلى هذه الدنيا، وهو أشرف من عيسى بن مريم عليه السلام()!
انتقل ابن سبأ بعد ذلك إلى الخطوة الثانية باختراعه لفكرة الوصية، فكان يقول: إنه كان قبل النبي صلى الله عليه وسلم ألفُ نبي، ولكلّ نبيّ وصيّ، ووصيّ النبي صلى الله عليه وسلم هو ابن عمّه وزوج ابنته، علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فمحمد، صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء، وعليٌّ، رضي الله عنه، خاتم الأوصياء.
ويَذكر العلماء أن ابن سبأ اخترع عقيدة الوصيّة هذه متأثرا باليهودية، فقد كان يقول قبل تظاهره بالإسلام إن يوشع بن نون هو وصيّ موسى عليه السلام، فكرّر مقالته هذه في الإسلام، مع تغيير شخوصها.
واتخذ ابن سبأ عليًّا وآل البيت، رضي الله عنهم، ستارا يرمي من خلالهم إلى الطعن في خليفة المسلمين، عثمان بن عفان، فأخذ يقول للناس: إنّ عليًّا أحق بالحكم من عثمان، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، أوصى له من بعده، وإن عثمان خالف وصيّة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنه "معتدٍ في ولايته ما ليس له"().
وبذلك اعتُبر ابن سبأ واضع بنيان التشيع، ومؤسس أول أفكاره (الرجعة والوصية)، رغم سعي بعض الشيعة المتأخرين إلى نفي ارتباط ابن سبأ بهم، بل نفيه بالكلّية واعتباره شخصية خرافية().
جولات ابن سبأ
أخذ ابن سبأ يجوب الأمصار وهو يدعو إلى باطله، ويحرّض على عثمان، وإذا كانت أفكاره تلك لم تجد صدى ولا قبولا في أوساط أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين تربوا على العقيدة الصحيحة وسموّ الأخلاق، فإنها وجدت صدى لدى ضعاف الإيمان والأعراب وذوي الشقاق والنفاق وحديثي السنّ وقليلي التجربة، "فاتّخذ بعضَهم دعاةً فهموا أغراضه ودعوا إليها، وآخرون صدّقوا قولَه فصاروا يدعون إليه عن عماية"().
من اليمن اتّجه ابن سبأ نحو الحجاز، حيث المدينة المنورة، في أولى مراحل تنفيذ مخططه، لكنه واجه مجتمعا إسلاميا متماسكا، فاتجه إلى العراق "فهناك مِن القبائل اليمنية، ومِن اليهود، ما يمكّنه من تكوين الصنائع من بينهم، من الموتورين، الذين لم يتمكن الإسلام من قلوبهم، وآثروا عصبياتهم القبلية، وأظهروا الإسلام بعد ردّتهم، على كُرهٍ وغصّة ومضض ... في تلك المجتمعات يمكنه ترويج بضاعة المطاعن والمثالب ضد حاكم المسلمين، وتأليب الهمج المغمورين بنشر الأكاذيب والأراجيف عن الحكام وولاة الأمور"().
وفي العراق، كانت البصرة محطته الأولى، حيث أسس نواة تنظيمه السّري هناك، فقد نزل ضيفا عند حكيم بن جبلة العبدي، وهو قاطع طريق متمرد، كان يخرج للجهاد فيُغير على أهل الذمة()، وفي البصرة اجتمع إلى ابن سبأ نفرٌ من أهلها، ولقي أذنا صاغية، وكاد الأمر يستفحل فيها، إلى أن تيقظ واليها، عبد الله بن عامر، فأخرج ابن سبأ إلى الكوفة، وكان ذلك سنة 33هـ.
وهناك في الكوفة وجد ابنُ سبأ أيضًا أرضًا خصبة لدعوته، ومِن أسباب ذلك وجود اليهود فيها، والذين أجلاهم عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، من فدك وتيماء ووادي القرى إلى الكوفة، حيث أقطعهم أرضا قرب الكوفة، تنفيذا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم "لا يجتمع بجزيرة العرب دينان"، وهؤلاء اليهود الذين سكنوا الكوفة "كانوا أنشط أعوان ابن سبأ في تنفيذ مخططاته"().
وعلى الرغم من أن يقظة والي الكوفة، سعيد بن العاص، وحزمه، شكّلا عائقين أمام ابن سبأ، ما أدّى إلى إخراجه منها، إلاّ أنه تمكن من بذر بذرة أخرى من بذور الفتنة، وترك تأثيرا هناك، فكانت المكاتبات جارية بينه وبين أهل البصرة والكوفة().
وإضافةً إلى أنه كوّن تنظيمين سريين في البصرة والكوفة، ونفث فيهما سمومَه، كان لابن سبأ رحلتان نحو بلاد الشام، الأولى منهما كانت في سنة 30هـ، وفيها لقي الصحابيَّ الجليل أبا ذر الغفاري، واستغلّ ما كان يتصف به من الزهد، وأخذ يحرّضه على والي الشام، معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه، ويقول له: إن معاوية يسمّي المالَ مال الله، كأنه يريد أن يحتجنه دون المسلمين، ويمحو اسم المسلمين().
وفي زيارته تلك إلى الشام، التقى بعدد من الصحابة مثل أبي الدرداء وعبادة بن الصامت، رضي الله عنهما، لكنه لم يحصل على مراده منهما، وبعد تجوّل في ربوع العراق، عاد ابن سبأ إلى الشام مرة أخرى، وكان ذلك في سنة 33هـ، ولم يفلح فيها في بذر بذور الفتنة، لحِكمة واليها معاوية، والتفاف أهلها حوله، وحول إمارته، فاختار التوجه نحو مصر، حيث ظهر فيها سنة 34هـ().
وفي مصر وجد ابنُ سبأ قبولا لدعوته، حيث كانت تكثر فيها القبائل اليمنية، وكان فيها كارهون لعثمان، رضي الله عنه، بسبب المكاتبات التي كانت تجري بين أتباعه في الأقاليم بأن يكتب كل بلد للبلد الآخر عن مساوئ أميره، ويشيعونها بين الناس.
وبعد عمل منظم استمر لسنوات، حانت ساعة الصفر، وخرجت جموع الغوغاء والمنافقين من مصر والعراق إلى المدينة المنورة، لحصار الخليفة وقتله، واندسوا مع الحجاج، زاعمين أنهم يريدون الحجّ، تمامًا كما فعل الشيعة غير مرّة في وقتنا الحاضر، إذ كانت جموع الحرس الثوري الإيراني تقدُم إلى مكة المكرمة في ثياب الحج، وفي حقائبها المتفجرات لتعيث في الأرض المقدسة الفساد، وتعتدي على الأرواح والممتلكات، كما في موسم الحج لسنة 1407هـ (1987م)، وكل ذلك يفعلونه تمهيدا لصرف المسلمين عن مقدساتهم في مكة والمدينة، وتحويلهم إلى قبور الشيعة ومزاراتهم في النجف وكربلاء وقُم ومشهد.
وبعد حصارً دام 40 يومًا لبيت الخليفة، تمكّن هؤلاء الخوارج من قتله، صابرا محتسبا، رضي الله عنه، وهو يقرأ القرآن، ليكون ذلك الخروج هو أول خروج على خلفاء المسلمين وحكامهم ممّن يزعمون أنهم مسلمون ومصلحون.
كان خروج ابن سبأ وأتباعه على خليفة المسلمين وقتله نتيجة جهد جماعي وتخطيط استمرّ لسنوات –وهو منهج لا يزال قائماً من قِبل أحفاد ابن سبأ من الخوارج والشيعة الذين تخترقهم المخابرات الدولية- ، وتمثّل هذا الجهد في ما يلي:
1- اتّباع مبدأ تشويه الخليفة وولاته، والطعن فيهم "ابدؤوا بالطعن على أمرائكم"، وإظهار أن هؤلاء الخوارج لا يريدون من وراء كل ذلك سوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يزال هذا التهييج على الحكام استراتيجية متبعة من قبل أحفاد ابن سبأ الخوارج والشيعة.
2- اختلاق الكتب والرسائل، ونسبها لكبار الصحابة وأم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، لإظهار أنهم كانوا كارهين لعثمان ولولاته، وأنهم حرّضوا على قتله، وترويج الأخبار الكاذبة هو أخطر أساليب أحفاد ابن سبأ اليوم.
3- محاولة الإيقاع بين الصحابة، وإظهار التأييد لأحد أطرافهم، كما في سعي ابن سبأ إيجاد خلاف بين أبي ذر ومعاوية، رضي الله عنهما، حول المال وسبل إنفاقه.
4- اتخاذ أهل البيت وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، ستارا وذريعة للطعن في عثمان، بزعم أنه اغتصب الحكم منهم، وامتدّ هذا الطعن –فيما بعد- ليشمل الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما.
أهم المراجع
1- الحافظ ابن كثير، البداية والنهاية، طبعة مؤسسة المعارف ودار ابن حزم، بيروت، 1430هـ، 2009م.
2- علاء الدين البصير، ابن سبأ الشبح المخيف (للفكر الجعفري ولمرتضى العسكري)، مركز إحياء تراث آل البيت وشبكة البرهان، 1429هـ (2008م).
3- د. حافظ موسى عامر، أصول وعقائد الشيعة الاثنا عشرية تحت المجهر ودور ابن سبأ في تأسيسها ونشأتها، القاهرة، مكتبة الإمام البخاري، الطبعة الأولى، 1427هـ (2006م).
4- الشيخ إحسان إلهي ظهير، الشيعة والسنة، لاهور (باكستان)، إدارة ترجمان السنة، الطبعة الثانية، 1395هـ (1975م).
5- الشيخ عثمان بن محمد الخميس، حقبة من التاريخ، الإسماعيلية (مصر)، مكتبة الإمام البخاري، الطبعة الثالثة، 1427هـ (2006م).