في بلاد الشام..
نوفل الجبلي – باحث يمني
خاص بالراصد
تمهيد ..
تواجد الحشاشون في بلاد الشام عن طريق الدعاة المبشِّرين بالفكر الإسماعيلي الباطني النِّزاري؛ والذين أرسلهم مؤسس الحركة (الحسن بن الصبّاح) من قلعة ألموت (مقر القيادة المركزية) في بلاد فارس. فبعد تحقيق بعض النجاحات والسيطرة على الكثير من القلاع والحصون في بلاد قزوين، تطلَّع الحشاشون إلى الحصول على موضع قدم في بلاد الشام..
كان من أبرز وأوائل دعاتهم: بهرام الاسترابادي، وإسماعيل الفارسي، ورشيد الدين شيخ الجبل([1]).. وغيرهم. في بادئ الأمر لم يحقق دعاتهم شيئاً يُذكر على أرض الواقع، ولم يلاقوا قبولاً بين الناس؛ لأنهم كانوا يعانون من اختلاف اللغة، واختلاف البُنية الاجتماعية في الشام عن أرض فارس التي ينتمون إليها. ولكن هذا لم يُثنِهم عن الاستمرار في نشر ما يعتقدون، حتى استفادوا من عدة عوامل ساعدتهم على إيجاد كيان سياسي وعقدي خطير.
أما جرائمهم فلا تكاد تختلف عن جرائم أبناء ملَّتهم في العراق وبلاد فارس، فقد اعتمدوا على الاغتيالات المنظَّمة للشخصيات الإسلامية المهمة، وعلى نهب الأموال وقطع الطرق، واتخذوا من ذلك سبيلاً لتحقيق مآربهم ..
لماذا الشام؟
توجهت أنظار الحسن بن الصبّاح ودعاته تلقاء بلاد الشام، وذلك لعدة أسباب؛ من أهمها:
* وجود طوائف شيعية كالعلويين والإسماعيلية القديمة في بعض المناطق السورية، تتفق في كثير من العقائد مع الحشاشين النزاريين، مما يسهّل من عملية حشدهم وتوحيدهم تحت لواء واحد. أي: أن سوريا يوجد بها جمهور يستسيغ ويتقبل أفكارهم، يستطيعون من خلاله تشكيل قاعدة شعبية جماهيرية تساعدهم..
* الاستفادة من التضاريس السورية التي تمكنهم من ممارسة سياستهم المتمثلة في (التغلغل والتحصن والهجوم)، فسوريا تمتد بين جبال طوروس شمالاً، وصحراء سيناء جنوباً، ويتخللها الجبال والوديان والصحاري ...
* مناطق بلاد الشام الشاسعة تؤوي سكاناً يتباينون فيما بينهم تبايناً شاسعاً، ولديهم نزعة محلية قوية للاستقلال، خلافاً للمجتمعات المجاورة في العراق ومصر، فسوريا لم تعرف الوحدة السياسية إلا نادراً، وهذا ما يجعل أهلها يطمحون للاستقلال..
* التمزق السياسي في سوريا آنذاك: فقد كانت تحت ولاية الأمير السلجوقي (تتش) -ماعدا الشريط الساحلي، كان في أيدي الفاطميين-، و(تتش) هذا لقي مصرعه في معركة بفارس خلال صراعه مع أخيه السلطان الأكبر (ملكشاه) على الرئاسة، مما أدى إلى تمزيقها لدويلات صغيرة يحكمها أمراء وقواد سلاجقة، كان أبرزهم: (رضوان ودوقان) ابنا تتش، اللذين كانا يحكمان حلب ودمشق. كما أن الصليبيين دخلوا الدولة الممزقة فزادوها تمزيقاً بإقامة أربع ولايات لاتينية: في أديسا وأنطاكية وطرابلس والقدس.. ([2]).
* الابتعاد عن مقر الخلافة ودولة السلاجقة في بغداد، ومحاولة إيجاد بدائل يمكن الاستفادة منها في حال القضاء عليهم ببلاد فارس ..
لهذه الأسباب وغيرها حرص الحشاشون على التواجد في بلاد الشام، وتوالى دعاتهم عليها، ولم يستطع أي من دعاتهم تأسيس الحركة بشكل مستقل، ولذلك كان تواجدهم السياسي عن طريق تحالفات مع بعض الزعماء السياسيين، مثل: (رضوان بن تتش) حاكم حلب، الذي سلّم لهم عدداً من الحصون والقلاع، استطاعوا من خلالها أن يوجهوا ضربات لأعدائهم.. ومَنْ أعداؤهم؟
الإسلام عدوهم الأول!
لم يكلِّف الحشاشون أنفسَهم مرةً لمحاربة الصليبيين الموجودين في بلاد الشام آنذاك، بل إن عداءهم وحَنَقهم كان مُنْصبَّاً على زعماء المسلمين، ويؤكِّد ذلك عدة حوادث تاريخية من أهمها:
- ما حدث في (أفاميا) التي حاول الحشاشون السيطرة عليها، ولكن خطتهم فشلت بسبب هجوم أحد الأمراء الصليبيين عليهم والسيطرة على المنطقة، وإبطال خطة الحشاشين. وبرغم ذلك "الصدام الأول بين الحشاشين والصليبيين وإحباط خطتهم المتقنة على يد أمير صليبي لم يؤدِّ إلى تحويل انتباه الحشاشين من الأهداف الإسلامية إلى الأهداف المسيحية، بل ظلَّ صراعهم الأساسي موجهاً ضد رؤساء الإسلام وليس ضد أعداء الإسلام، وكان غرضهم الأكبر ضرب السلطة السلجوقية أينما ظهرت!!"([3]).
- قَتْل الحشاشين الأمير السلجوقي (مودود) في دمشق، والذي جاء على رأس بعثة عسكرية تهدف إلى محاربة الصليبيين!.
- التعاون الذي جمع بين أحد زعماء الحشاشين ويُدعى (علي بن وفا) والزعيم الصليبي (ريموند) حاكم أنطاكية ضد (نور الدين زنكي) في حملته عليهم!. ([4])
إذن كان وجودهم في سوريا بهدف محاربة زعماء الإسلام من السلاجقة والزنكيين ومن ثَمَّ الأيوبيين كما سيأتي..
شيخ الجبل..
على الرغم من مرور عشرات السنين من تواجد الحشاشين في الشام فإنهم لم يحصلوا على كيان مستقل ومستقر إلا بعد السيطرة على عدد من القلاع والحصون الهامة؛ من أهمها: قلعة بانياس وتقع على الشريط الساحلي قريباً من اللاذقية، وحصن قدموس، وحصن المصياف ، والرصافة.. وهي قلاع في مناطق مختلفة من سوريا([5])..
وبعد السيطرة على عدد لا بأس به من الحصون والقلاع، وصل إلى قيادة الحشاشين أعظم زعمائهم على الإطلاق، وهو: أبو الحسن سنان بن سليمان بن محمد البصري، المعروف براشد الدين([6]) والمُلقّب بشيخ الجبل، نشأ في البصرة، وتلقى علومه في قلعة ألموت، وكان زميلاً لولي العهد الحسن بن محمد([7])، والذي أمره بالمسير إلى بلاد الشام عندما صار الأمر إليه([8]).
يقول عنه الذهبي: "كبير الإسماعيلية وطاغوتهم.. كان ذا أدب وفضيلة، ونظرٍ في الفلسفة وأيام الناس، وفيه شهامة ودهاء ومكر وغَوْرٌ"([9]).. "كان سخطة وبلاء متنسكاً متخشعاً واعظاً، وكان يجلس على صخرة لا يتحرك منه سوى لسانه، فربطهم وغلوا فيه، واعتقد منهم فيه الإلهية، فتباً لهم ولجهلهم، فاستغواهم بسحر وسيمياء، وكانت له كتب كثيرة ومطالعة وطالت أيامه"([10]).
ويحكون عنه أنه كان ذا شخصية مخيفة، ويعدّونه أبرز وأعظم شخصياتهم على الإطلاق([11]). وقد قام بالسيطرة على قلاع جديدة مثل: قلعة العليقة، وقام ببناء وتجديد قلاع أخرى.
يقول المؤرخ السوري ابن العديم: "إنه بنى قلاعاً في سوريا للفرقة – أي: لفرقة الحشاشين- وقد كان بعضها جديداً، وبعضها قلاعاً قديمة حصل عليها بالخديعة ثم حصّنها وجعلها منيعة، وغفل عنه الزمان، ولم يهتم الملوك بمهاجمة ممتلكاته خوفاً من الانتقام باغتيالهم، وقد حكم في سوريا ثلاثين عاماً"([12]).
ومن أعجب ما جاء به شيخ الجبل أنه عطّل الشريعة الإسلامية، وسنَّ شريعة أخرى تستبيح المحظورات، وتنتهك المحرمات، لكنه سرعان ما تراجع عنها خوفاً من القضاء عليه. وقد ذكر ذلك ابن العديم: "وفي هذه السنة - أي في 572هـ- أظهر أهل جبل السماق الفسق والفجور، وتسمَّوا بـ(الصُفاة)([13])، واختلط النساء والرجال في مجالس الشرب، ولا يمتنع أحدهم من أخته ولا بنته، ولبِسَ النساءُ ثيابَ الرجال، وأعلن بعضهم بأن سناناً – أي شيخ الجبل- ربه. فسيّر الملك الصالح إليهم عسكر حلب، فهربوا من الجبل وتحصنوا في رؤوس الجبال، فأرسل سنان، وسأل فيهم، وأنكر حالتهم، وكانوا قد نسبوا ذلك إليه، وأنهم فعلوا ذلك بأمره، فأشار سعد الدين بقبول شفاعته فيهم، وعاد العسكر عنهم"([14]).
استفاد شيخ الجبل وفرقته من العوامل المساعدة، وجمع حوله الطائفة الإسماعيلية، وصار لهم نفوذ وسلطان، واعترف الناس بإمامته. وقام بالعديد من التحالفات سواء مع الزنكيين أو مع الصليبيين. وكانت محاولتيْ اغتيال صلاح الدين الأيوبي أبرز أعمالهم الإجرامية المؤذِنة بزوالهم. للحديث بقية إن شاء الله..
وقفات مما سبق..
- يشترك أهل الأهواء والفرق الضالة مع أعداء الإسلام برباط وثيق هو: عداوتهم الصريحة والواضحة للمسلمين ومعتقداتهم، وإن قالوا غير ذلك، وما الواقع عنا ببعيد؛ فما جرى للمسلمين في العراق من قِبل الصفويين في السنوات الأخيرة لا يكاد يختلف عمّا أصابهم من الأميركان، بل قد يكون أشد. وما حدث ويحدث هذه الأيام في بلاد الشام، يكاد يكون أفظع وأشد مرارة مما لاقاه المسلمين من ألدِّ أعدائهم: اليهود..
- ليس لنا أن نعجب من تعاون فرقهم المختلفة والمتناحرة على الإسلام والمسلمين؛ كتعاون العلويين مع الإسماعيلية والحشاشين. بل العجب مِن قِدَم تعاونهم مع الصليبيين وأعداء الدين، وإن أظهروا عداوتهم، وادّعوا كرههم. دائماً يكرر لنا التاريخ مواقف تدل على أن ولاءهم لم يكن يوماً لله ورسوله وللمؤمنين.!
([1]) الموسوعة الميسرة، ط دار الندوة العالمية، (1/405).
([2]) الحشاشون فرقة ثورية في تاريخ الإسلام، لبرنارد لويس، ط مكتبة مدبولي، ص (145، 146)..
([3]) المرجع السابق، ص (151).
([4]) المرجع السابق، ص (160).
([5]) المرجع السابق، ص (158).
([6]) كما سماه الذهبي في سير أعلام النبلاء، ط الرسالة (21/182). وفي بعض الكتب يسمونه: رشيد الدين، وهو الأشهر.
([7]) المقصود به: الحسن بن محمد بن كيابزرك أميد، ولي عهد حاكم قلعة ألموت آنذاك.
([8]) طائفة الإسماعيلية، للدكتور محمد كامل حسين، ص (100).
([9]) سير أعلام النبلاء، للذهبي، ط الرسالة، (21/182).
([10]) تاريخ الأيوبيين (ص97)، نقلاً عن كتاب صلاح الدين الأيوبي، للدكتور الصلابي (ص435).
([11]) الموسوعة الميسرة، ط دار الندوة العالمية، (1/405).
([12]) زبدة الطلب من تاريخ حلب، لابن العديم، نقلاً عن كتاب برنارد لويس (ص164).
([13]) ذكر برنارد لويس أنهم سموا أنفسهم بـ (المتطهرين).
([14]) زبدة الحلب في تاريخ حلب، لابن العديم، ط دار الكتب العلمية بيروت، (1/373).