البساسيري ومحاولة إلغاء الخلافة العباسية
تمرُّ محاولة البساسيري إسقاط الخلافة العباسية في كتب التاريخ مروراً سريعاً، ولا يُشار إليها بكبير اهتمام! مع أنَّ لها دلالتَها الخطيرةَ المؤشِّرةَ إلى تعاظم الخطر الباطني، الذي كاد يصل إلى حدِّ القدرة على إلغاء الدولة العباسيّة تماماً، ونقل السلطة المركزيَّة من بغداد إلى الشيعة العبيديين في مصر، حتَّى سمّى الحافظ الذهبيُّ هذه الواقعة في كتابه سير أعلام النبلاء "الفتنـة العظمَى".
في سنة 422 هـ آلت الدولة العباسيَّة إلى عبد الله بن أحمد القادر الملقَّب بـ "القائم بأمر الله"، مستخلَفاً من أبيه، وكان بذلك السادسَ والعشرين من ملوك بني العبّاس عموماً، والرابعَ والأخير من ملوك عصر التحكُّم البويهي في الحكم والدولة.
وبنو بويه أسرةٌ فارسيَّة استوطنت الديلم، استخْفَت بنحلتها الباطنيَّة، وأظهرت مقدراتٍ عسكريَّةً، فتمكَّنت في الجيش، وأصبح بعض أفرادها قوّاداً وأمراء، منهم عليّ بن أبي شجاع (بويه) وأخواه أحمد وحسن .
وتغلغل هؤلاء ونسلُهم في الدولة ، وقد بلغ من شأنهم أن قيَّدوا السلطة المركزيَّة، وحدّوا من قبضتها على مقاليد الأمور، بل وصل الأمر إلى ما يشبه إهانةَ الخليفةِ نفسِه، وسَجنِه إن اقتضى الأمر! وكان لهم ملكُهم "الخاص" الذي لا سلطان يُذكر للخليفة عليه.
ثم إنَّهم عملوا بما يمليه عليهم خبث طويَّتهم وغلوُّهم في الرفض فأظهروا صنوف البدع العقديَّة والعمليَّة، ونشروا شعار الروافض(من الإعلان بسبِّ الصحابة وكَتْب ذلك على أبواب المساجد، والزيادة في ألفاظ الأذان، والنياحة واللطم، والاحتفال بعيد غدير خم إلخ...) وأخذوا الناس بذلك قهراً، سيما في العراق في فترة معز الدولة! أحمد بن بويه.
وفي تلك الأثناء كان العبيديُّون قد بسطوا نفوذهم- بعد المغرب- في مصر والحجاز وأجزاء من الشام ،ولم يكونوا يخفون أحقادهم،ولا أطماعَهم في مزيد من المناطق، بل كانوا يمدُّون أيديَهم علناً إلى الصليبيّين، ويتبادلون معهم السِّفارات.
وكان البويهيُّون يمدُّون الجسور إلى العبيديين إخوانِهم في العقيدة، وتجري بينهم المراسلات، بل كانوا يشاورونهم في إمكان إعلان الحاكم العبيدي خليفةً للمسلمين عامةً وخلعِ الخليفة العبّاسي، لكن ذلك لم يكن قد حان أوانه بعد.
تعاظم شأنُ البساسيريّ وانتشر ذِكره وطار اسمُه وتهيَّبته أمراء العرب والعجم.. وجبى الأموال وخرب الضياع، ولم يكن الخليفة يقطع أمراً دونَه، ولا يحلّ ولا يعقد إلاّ عن رأيه. ثم استمر في انتزاع الصلاحيّات حتى لم يبقَ للملك الرحيم [البويهي] ولا الخليفة [القائم بأمر الله] معه إلاّ الاسم!.
وفي سنة 447 هـ راسل البساسيريُّ المستنصرَ العبيديَّ، وأطلعه على عزمه إلغاء الخلافة العبّاسيَّة، وإرسال شارات الخلافة إليه، تمهيداً لاستقدامه إلى بغداد ومبايعته خليفةً للمسلمين عامَّة، وطلب منه الدعمَ بالمال والسلاح.
وساءت علاقة الخليفة القائم بالبساسيري، وأرسل إلى الملك البويهي يقول له: "إن البساسيري خلع الطاعة، وكاتب الأعداء، وأن الخليفة له على الملك عهوداً، وله على الخليفة مثلها، فإن آثره فقد قطع ما بينهما، وإن أبعده، وأصعد إلى بغداد، وتولى الديوان تدبير أمره".
واستدعى الخليفة طُغرُلبَك القائد السلجوقي إلى بغداد لحماية الخلافة وكسر شوكة البساسيريّ، وكذلك لأن الخليفة فقد ثقته بمن حوله، ورأى أن مصلحته تقضي عليه الاتصال بقوة السلاجقة النامية، خاصة وأنها كانت تدين بالمذهب السني، وتحترم الخلافة.
وقدم طغرلبك من الريّ ودخل بغداد، وخرج البساسيريّ بعسكره إلى مكان بين الرقّة وبغداد يسمَّى الرَّحْبة، وأمدَّه المستنصر بما أراد من مال وسِواه، انطلاقاً من مواقع نفوذه في الشام.
وعندما دخل طغرل بك بغداد، أظهر العامة تذمرهم، وقتلوا عدداً من جنده، فاستاء من ذلك، واتهم الملك (الرحيم) البويهي وأتباعه، فقبض عليهم، وأرسل الملك البويهي إلى قلعة السيروان على مقربة من الري (طهران)، حيث ظل معتقلاً بها ثلاثة أعوام ثم توفي، واستولى على إقطاعات عسكره، مما دفع أكثر هؤلاء إلى الخروج من بغداد، وانضموا إلى البساسيري، فكثر بهم عدد أنصاره.
واستعد طغرلبك لقتال البساسيريّ ، لكنَّ البساسيريّ وبعض دعاة الإسماعيلية مثل هبة الله الشيرازي تمكَّنوا من شقِّ صف السلاجقة،والإيقاع بين طغرلبك وأخيه إبراهيم ينال، عن طريق مراسلة الأخير، وإطماعه بإقصاء أخيه، والاستيلاء على منصبه.
واضطر طغرل بك إزاء تمرد أخيه إبراهيم ينال إلى أن يغادر بغداد, ويعود إلى الري لمحاربة أخيه والقضاء على ثورته، واستغل البساسيري هذا الوضع، وزحف على بغداد ـ بعد أن كان احتل الأنبار ـ على رأس قوة عسكرية تقدر بأربعمائة شخص، حاملاً الرايات المستنضرية، وقد كتب عليها "الإمام المستنصر بالله أبو تميم معد أمير المؤمنين"، كما سار معه أمير الموصل قريش بن بدران العقيلي، وكان حليفاً للبساسيري، في مائتي فارس، وتمكنا من دخول بغداد في ذي القعدة سنة 450هـ دون مقاومة تذكر.
واضطر الخليفة القائم إلى طلب الأمان من قريش بن بدران، فأجابه إلى طلبه، وأرسله إلى حُديثة عانة تحت الإقامة الجبرية، وكان البساسيري يرغب في إرساله إلى مصر عند المستنصر العبيدي.
وأرغم البغاة الخليفة العباسي قبل مغادرته بغداد على كتابة عهد اعترف فيه بأنه لا حق لبني العباس، ولا له هو ،في الخلافة مع وجود بني فاطمة الزهراء( ـ كان الحكام العبيديون يدّعون أنهم من نسل فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم لكسب قلوب المسلمين الذين يحبون أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يسمون أنفسهم "الفاطميين".