بيعة علي بن أبي طالب لأبي بكر الصدّيق
رضي الله عنهما
د. حامد الخليفة
خاص بالراصد
الحقيقة التي لا مرية فيها أنّ أعداء الصحابة من الرافضة ومن بعدهم الكثير من المستشرقين عملوا ولا زالوا يعملون بجَلَد ظاهر وحقد متوارث على تشويه كل صورة مشرقة تسهم في تقوية بناء الأمة، ومن ذلك سطوهم على الروايات التاريخية التي تتناول أهم المفاصل في مسيرة الأمة، ووضع الشبهات المدعمة بأفتك بذور الفتنة، وأقذر وسائل التحريض على الكراهية ونزع الثقة بين أبناء الأمة الواحدة.
والناظر في الروايات التي تناولت بيعة علي رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد مصداق ذلك، فالروايات التي أرَّختْ لبيعة علي رضي الله عنه في تلك المرحلة الحاسمة من تاريخ الأمة حوالي خمس عشرة رواية، ثلاث عشرة منها ما بين الموضوعة والمنكرة والمجهولة الرواة، وعامتها في كتب التاريخ والأدب وما شابه، وخمسة منها بلا أسانيد وكأنما صُنعت للفتنة فقط! وثمانية أخرى بأسانيد تالفة لما فيها من الانقطاع ورواة المناكير أو الرواة المجاهيل، مع الاتفاق على فساد المتون في تلك الروايات الثلاث عشرة.
ومعلوم أنّ أبطال تلك الروايات من أعداء الصحابة الذين يرفضون خلافة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، وفي مقدمتها روايات الإخباري التالف الرافضي أبي ِمخنَفْ لوط بن يحيى المتوفى 157 هـ، صاحب أخبار الرافضة في تاريخ الطبري، واليعقوبي الرافضي المتوفى 212 هـ، في تاريخ اليعقوبي، والمسعودي الرافضي المعتزلي المتوفى عام 346 هـ، الذي تخفى كتبه على كثير من المسلمين لمكره وبراعته في بث سمومه في كثير من كتبه التي منها: الاستبصار في الإمامة، والبيان في أسماء الأئمة، والصفوة في الإمامة، وإثبات الوصيّة، ومروج الذهب وغيرها، ونصر بن مزاحم الرافضي المتوفى 212هـ في كتابه "وقعة صفين" وغير هؤلاء كثير، شاركهم في ذلك من لم يكتف بالروايات التي تطعن بالصحابة رضوان الله عليهم حتى راح يؤلف الكتب المكذوبة التي تؤدي مثل هذا الدور التخريبي لهوية الأمة، تمثل ذلك في كتاب "الإمامة والسياسة" المنسوب زورا لابن قتيبة!
ولا تسأل عن غبطة اليهود والصليبيين من قادة الغزو العسكري والتضليل الثقافي والإعلامي والمستشرقين الذين صنعوا الموسوعات العلمية التي تتحدث عن الحضارة الإسلامية، وأسهموا في تكوين الرؤية الغربية المشوهة للمسلمين بمثل هذه الروايات الرافضية الحاقدة، التي أغنتهم عن صناعة ثقافة تُفرق بين المسلمين وتنشر الريبة والشك في رموزهم وقادة أمتهم، يشاركهم في ذلك حملة الأسفار، وأعوان الردة ومن يأخذ عنهم ممن تنكروا لأمتهم وماضيها الزاهر المجيد!
أما الرواية الصحيحة التي تثبت بيعة علي رضي الله عنه لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني من بيعة السقيفة المباركة فهي مروية في كثير من المصادر منها سنن البيهقي الكبرى، ومستدرك الحاكم، والبداية والنهاية، وطبقات ابن سعد وغيرها من الكتب كما ستظهر في موضعها من هذا المقال، ولكن العجب من أنها مغمورة ولا يستشهد بها كثير من الكتاب، ولا تذكر في المناهج التعليمية، ولا في المراحل الدراسية، في حين أن الروايات الموضوعة تملأ كتب التاريخ والأدب، وتغلب على خيال الكثير من الشعراء والكتاب والإعلاميين، بل وعلى كثير من خطباء المساجد ومقرري المناهج والمدرسين وغيرهم!!
وإن دلَّ هذا على شيء فعلى عظم المصاب الثقافي الكبير الذي يرمي إلى الطعن في العقيدة، والغمز برجال الكتاب والسنة ولا سيما الخلفاء الراشدين الذين أسهموا في وضع حجر الأساس الذي قامت عليه الدولة والحضارة الإسلامية منذ عصر الرسالة، كما إنه يدل على جَلَد الرافضة وشدة حنقهم على هذه الأمّة العربية الإسلامية واستخدامهم كل الوسائل لحربها وتزييف هويتها!.
كما أن هناك رواية أخرى تثبت بيعة علي رضي الله عنه للخليفة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه بعد ستة أشهر من وفاة النّبي صلى الله عليه وسلم، ولا يستطيع أحد ردها فهي موجودة في الصحيحين: البخاري ومسلم، وسيأتي الحديث عن التوفيق بين الروايتين في توقيت البيعة.
فتغييب هذه الروايات الصحيحة وضعف انتشارها في المناهج والإعلام والندوات والخطب والمحاضرات والتوجيه المعنوي، وعن عامة كتب الفقه السياسي الإسلامي، وندرة الشرح والتفصيل فيها، يوضح وجود قصورا أو إهمالا علميا عند أهل السنة في هذا الميدان الخطير من تراث الأمة، ويبين أنّ هناك أيد عابثة في الروايات والأحداث المصيرية! تغير الحقائق وتقلب الموازين، وتقدم المشبوه وتبعد الصحيح، ولاسيما ما يتعلق منها بالفقه السياسي المرتبط بعقيدتها وعوامل وحدتها، وطاعتها لأئمتها في تاريخها الطويل.
ويؤكد أنّ أعداء الصحابة بكل معسكراتهم يفعلون ذلك عن قصد وسبق إصرار، للطعن في وحدة المسلمين وتحريف عقيدتهم، ذلك أنّهم يعلمون أنّ وحدة المسلمين وسلامة عقيدتهم، هي التي تغلق أمامهم مشاريع الفتنة والخراب والتزييف، فراحوا ينفثون الزيف وينشرون ثقافة الكراهية، ويحيكون الفتن، ويحيون لذلك كل ذكرى، ويجددون كل بلوى، ويطربون لكل هفوة، فيزيفون الحق ويجملون الباطل، - كما هي عقيدتهم - عن يوم السقيفة، حيث عملوا بكل وسعهم لتضليل المسلمين عن ذلك الإنجاز الحضاري الرائع الفريد، مستخدمين كل أنواع الأسلحة، من نشر ثقافة التزوير والتحريف إلى الاغتيال والإقصاء والتشويه، ولعل من أشهر أسلحتهم التي شهروها ضد وحدة الأمة وعقيدتها هذه الغارة المتواصلة على يوم السقيفة وبيعة أبي بكر الصدّيق خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتمكنوا بهذا المكر من إحداث الشروخ في الصف الإسلامي وزرع الألغام أمام العاملين على طريق الإصلاح والوحدة!.
وأمام هذا التدليس والتلبيس المستهدف لوحدة المسلمين وأمنهم وأخوتهم، أصبح من الواجب على المسلم وبكل ما أوتي من إيمان وإخلاص لعقيدته وولاء لأمته، أن يواصل العمل على إزاحة هذه العقبات والشرور من طريق العاملين على بعث الأمة من جديد، وبيان عوار ما يتسلح به أعداء الوحدة والتوحيد من شبهات مهترئة وأباطيل مضللة، تقوم عامتها على فِرية الزعم بأنّ علياً رضي الله عنه تأخر متعمداً عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أدلة عدم تخلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه:
- إنه لم ينقل في رواية صحيحة أنّ علياً رضي الله عنه تخلف عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه من غير عذر في صلاة أو مشورة أو جهاد، ولا يستطيع أحد أن يسجل على علي رضي الله عنه كلمة فيها تأفف أو تردد أو شيء من هذا القبيل، بل إنّ المتتبع لسيرة علي رضي الله عنه ولمواقفه وأقواله وأفعاله في حياته كلها تجاه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه فإنّه لا يجد إلا الثناء العطر والتبجيل ووشائج الود وأواصر المودة، وإنّ علياً رضي الله عنه كان مع الصدّيق رضي الله عنه كالولد الأريب اللبيب البار الشفيق الوفي، كيف لا وعلي رضي الله عنه عايش في طفولته جهاد الصدّيق رضي الله عنه ومنافحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، بدمه وماله وبكل ما يملك، ومن لا يذكر ذلك للصديق رضي الله عنه سوى من نُزع من قلبه الإيمان والوفاء والأمل!
كيف لا وعلي رضي الله عنه كان في الثلاثين حين وفاة النّبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه قد ناهز الستين وكان في علمه وورعه وزهده وإخلاصه وألفته وجمال طلعته يفرض على كل من يراه أن يحبه ويوافقه، حتى لو كان من خصومه! فكيف وعلي رضي الله عنه يعلم كل هذا ويعلم ما بين الصدّيق رضي الله عنه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من وشائج لم يبلغها أحد من الصحابة رضي الله عنهم فعلي رضي الله عنه لم يتخلف عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه ومنذ أن بويع الصديق رضي الله عنه فإنّ علياً رضي الله عنه كان أحد أبناء الخلافة المخلصين وجنودها العاملين، سوى ما تخلل ذلك من أيام كان يرعى فيها ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقوم على شؤونها ومؤانسة وحشتها بعد فقدها لأبيها صلى الله عليه وسلم ويخفف عنها ما كانت تعانية من آلام المرض الذي سبق وفاتها رضي الله عنها، وهو معذور في كل ذلك.
- وكان المسلمون يسجلون لعلي رضي الله عنه مواقفه المحامية عن الخلافة منذ أيامها الأولى على الرغم من تهافت الرافضة على طمس أي أثر لتلك المحاماة وذلك الجهاد المبارك، قالت أم المؤمنين الطاهرة عائشة رضي الله عنها: "خرج أبي شاهراً سيفه، راكباً على راحلته إلى ذي القَصّة فجاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه يأخذ بزمام راحلته، فقال: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ أقول لك ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد: "شم سيفك ولا تفجعنا بنفسك" فو الله لئن أُصبنا بك لا يكون للإسلام بعدك نظام أبداً فرجع وأمضى الجيش"(2).
- فعلي رضي الله عنه لم يتخلف ولم يتأخر، وإنما هذه أماني الرافضة وشبهاتهم التي سطروها في رواياتهم الماكرة، وإذا كان كل واحد من المهاجرين والأنصار بايع أبا بكر مرة واحدة فإنّ علياً رضي الله عنه بايع مرتين: الأولى منهما في المسجد مع المسلمين في البيعة العامة، والأخرى بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها بعد ستة أشهر من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- فالبيعة الأولى: رواها أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطباء الأنصار فجعل الرجل منهم يقول: يا معشر المهاجرين إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استعمل رجلاً منكم قرن معه رجلاً منا فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان، أحدهما منكم والآخر منا قال فتتابعت خطباء الأنصار على ذلك، فقام زيد بن ثابت فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين وإنّ الإمام يكون من المهاجرين ونحن أنصاره كما كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال: جزاكم الله خيراً يا معشر الأنصار وثبت قائلكم ثم قال: أما لو فعلتم غير ذلك لما صالحناكم، ثم أخذ زيد بن ثابت بيد أبي بكر رضي الله عنه فقال: هذا صاحبكم فبايعوه ثم انطلقوا، فلما قعد أبو بكر على المنبر نظر في وجوه القوم فلم ير علياً، فسأل عنه فقام ناس من الأنصار فأتوا به، فقال أبو بكر: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه: أردت أن تشق عصا المسلمين فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه، ثم لم ير الزبير بن العوام فسأل عنه حتى جاؤوا به فقال: ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه أردت أن تشق عصا المسلمين فقال مثل قوله لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعاه"([1]) (لا تثريب، أي: أعذرني ولا تلمني).
- قَالَ أَبُو عَلِيّ الْحَافِظُ سمعتُ مُحَمَّدَ بن إسحاق بن خُزَيْمَةَ يقول: "جَاءَنِى مُسْلِمُ بنُ الْحَجَّاجِ– صاحب الصحيح - فَسَأَلَنِى عن هذا الحدِيثِ فكَتَبْتُهُ لَهُ في رُقْعَةٍ وقرأتُ عليهِ فَقَال هذا حَدِيثٌ يَسْوَى بَدَنَةً – أي ناقة - فَقُلْتُ يَسْوَى بَدَنَةً؟! بَل هو يَسْوَى بَدْرَةً – أي كيس من المال-"([2]).
فهذه رواية صحيحة سنداً ومتناً ولا تناقض ما في الصحيحين، ولا تصمد أمامها الروايات الأخرى التي تُلبس على المسلمين أمر خلافة نبيهم صلى الله عليه وسلم وتشكك في جانب أخوة الصحابة رضي الله عنهم وتروج للفتنة ونشر الأخبار المغرضة عن تأخر بيعة علي رضي الله عنه، على الرغم من كثرتها، وكثرة ما وضعه الوضاعون في هذا الباب.
- أما البيعة الثانية فرواها البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم، وكان سببها أن علياً رضي الله عنه انشغل في تمريض فاطمة رضي الله عنها، قال ابن كثير: ويقال: إنها رضي الله عنها لم تضحك في مدة بقائها بعده صلى الله عليه وسلم وأنها كانت تذوب من حزنها عليه وشوقها إليه صلى الله عليه وسلم، فلما توفيت جدد بيعته مرة أخرى.
وهذه البيعة الثانية لا تنفي ما ثبت من البيعة الأولى المتقدمة عليها([3]) قال ابن كثير: (وقد اتفق الصحابة رضي الله عنهم على بيعة الصدّيق رضي الله عنه في ذلك الوقت، حتى علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام)([4]) ثم ساق الروايات الصحيحة الدالة على ذلك، فأثبت اتفاق الصحابة رضي الله عنهم وإجماعهم على بيعة أبي بكر رضي الله عنه بالروايات الصحيحة عن الصحابة، وعن أئمة السلف، وما قرره العلماء المحققون في هذا، ولا يقدح في هذا ما ثبت في صحيح البخاري أنّ علياً تأخر عن بيعة أبي بكر حياة فاطمة رضي الله عنها([5]) فإنّ العلماء المحققين ذكروا أنّ هذه بيعة ثانية، قال ابن كثير: وهذا اللائق بعلي رضي الله عنه والذي تدل عليه الآثار من شهوده معه الصلوات، وخروجه معه إلى ذي القَصّة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذله له النصيحة والمشورة بين يديه، وأمّا ما يأتي من مبايعته إياه بعد موت فاطمة، وقد ماتت بعد أبيها صلى الله عليه وسلم بستة أشهر، فذلك محمول على أنها بيعة ثانية أزالت ما كان قد وقع من وحشة بسبب الكلام في الميراث، ومنعه إياهم ذلك بالنص من رسول الله صلى الله عليه وسلم([6]).
وقال ابن كثير أيضاً: (ولكن لما وقعت هذه البيعة الثانية اعتقد بعض الرواة أنّ علياً لم يبايع قبلها فنفى ذلك، والمثبت مقدم على النافي كما تقدم)([7]).
- وفي الصحيح قَالَ مَعْمَر: قُلْتُ لِلزُّهْرِىِّ: كَمْ مَكَثَتْ فَاطِمَةُ بَعْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَقَالَ رَجُلٌ لِلزُّهْرِىِّ: فَلَمْ يُبَايِعْهُ عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى مَاتَتْ فَاطِمَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا قَال: لا، وَلاَ أَحَدٌ مِنْ بَنِى هَاشِمٍ([8]) (وَقَوْلُ الزُّهْرِىِّ فِى قُعُودِ عَلِىٍّ عَنْ بَيْعَةِ أَبِى بَكْرٍ رضي الله عنه حَتَّى تُوُفِّيَتْ فَاطِمَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا مُنْقَطِعٌ وَحَدِيثُ أَبِى سَعِيدٍ رضي الله عنه فِى مُبَايَعَتِهِ إِيَّاهُ حِينَ بُويِعَ بَيْعَةَ الْعَامَّةِ بَعْدَ السَّقِيفَة أَصَحُّ وَلَعَلَّ الزُّهْرِى أَرَادَ قُعُودَهُ عَنْهَا بَعْدَ الْبَيْعَةِ ثُمَّ نهوضه إِليها ثَانِيًا وَقِيامَهُ بواجباتها واللَّه أَعْلَمُ([9]).
- وقال ابن حجر في شرح الحديث الذي ذكر تأخر علي رضي الله عنه ستة أشهر: (وقد تمسك الرافضة بتأخر علي عن بيعة أبي بكر إلى أن ماتت فاطمة، وهذيانهم في ذلك مشهور، وفي هذا الحديث ما يدفع حجتهم، وقد صحح ابن حبان وغيره من حديث أبي سعيد الخدري وغيره: "أنّ علياً بايع أبا بكر في أول الأمر" وأما ما وقع في مسلم عن الزهري أنّ رجلاً قال له: "لم يبايع علي أبا بكر حتى ماتت فاطمة؟ قال: لا، ولا أحد من بني هاشم" فقد ضعفه البيهقي بأن الزهري لم يسنده، وأنّ الرواية الموصولة عن أبي سعيد أصح، وجمع غيره بأنه بايعه بيعة ثانية مؤكدة للأولى، وعلى هذا فيُحمل قول الزهري لم يبايعه علي: في تلك الأيام على إرادة الملازمة له والحضور عنده، وما أشبه ذلك، فإنّ في انقطاع مثله عن مثله ما يوهم من لا يعرف باطن الأمر أنّه بسبب عدم الرضا بخلافته، فأطلق من أطلق ذلك، وبسبب ذلك أظهر علي رضي الله عنه المبايعة التي بعد موت فاطمة رضي الله عنها لإزالة هذه الشبهة)([10]).
فتفسير المنافقين المشبوه لانشغال علي رضي الله عنه عن ملازمة الخليفة أثناء مرض السيدة فاطمة رضي الله عنها، دفع علياً رضي الله عنه إلى تجديد بيعته لأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه مرة أخرى، وذلك حسماً منه لمادة الفتنة وإرغاماً لمن يرفض خلافة الصدّيق رضي الله عنه وبراءة مما يقوله المنافقون في الماضي ويدين به أتباعهم في الحاضر!.
- فالقول بتأخر علي رضي الله عنه هو قول الزهري ولم يسند قوله هذا بأي سند، في حين وجد السند والمتن الصحيح الذي يثبت تلك البيعة أولا، وقد أدرج قول الزهري مع نص الرواية الصحيحة فانتشر على أنّ تأخر علي رضي الله عنه موجود في الصحيح، والواقع يخالف ذلك، والقرائن التي تثبت عكسه كثيرة، منها:
ثبوت بيعة علي من غير تأخير بسند صحيح.
وأنّ علياً لم يثبت عنه أنه طالب بالخلافة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأنه لا يوجد نص صحيح يشير إلى تقديم علي رضي الله عنه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
ثبوت أنّ علياً والعباس وآل البيت رضي الله عنهم كانوا يصلون خلف إمام الأمّة أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة النّبي صلى الله عليه وسلم.
إجماع المهاجرين والأنصار على الطاعة والتعاون والتقرب إلى الله تعالى بتنفيذ أوامر أبي بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كل ذلك وغيره يؤكد أنه لا مجال لقبول رواية تناقض هذه الحقائق، التي تمثل مفردات أنصع صفحة وأنقى مرحلة تجلت فيها الشورى وتألق فيها الحوار بأوسع أبوابه بين الصحابة رضوان الله عليهم.
وإن قبول مثل هذه الشبهات يقود إلى ما يخالف الإشارات القرآنية والإرشادات النبوية وإجماع الأمّة المرضية على تقديم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم والخضوع لمكر الرافضة والمرتدين وإخوانهم المستشرقين وكثير من العلمانيين لتمرير فرية الوصية التي قال بها الزنديق ابن سبأ، التي يدين بها اليهود وإخوانهم أعداء الصحابة لحرب قيم الحوار والشورى التي تمثل روح الفكر الإسلامي الصحيح وزهرة الأخلاق السياسية في العصر الراشدي.
العلاقة بين أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما:
* عن عقبة بن الحارث، قال: "صلّى أبو بكر رضي الله عنه العصر ثم خرج يمشي فرأى الحسن يلعب مع الصبيان فحمله على عاتقه وقال: بأبي شبيه بالنّبي لا شبيه بعلي، وعلي يضحك"([11]) وقد جاء هذا الحديث الصحيح بتفصيل أكثر، فيه أنّ ذلك كان بعد ليال فقط من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، عن عقبة بن الحارث قال: "خرجت مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه من صلاة العصر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بليال وعلي رضي الله عنه يمشي إلى جنبه، فمرّ بحسن بن علي يلعب مع غلمان، فاحتمله على رقبته وهو يقول: وا بأبي شبه النبي.. ليس شبيهاً بعلي، قال: وعلي يضحك"([12]) فهل هذه حال متخاصمين أم حال إخوة متوادين متآزرين متناصرين؟.
* وفي الصحيحين "أَنَّ فَاطِمةَ والعَبَّاسَ رضي اللَّهُ عنهُما أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ يَلْتَمِسَانِ مِيرَاثَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"([13]) فهل يأتي العباس وفاطمة رضي الله عنهما إلى خليفة لم يبايعه علي رضي الله عنه ليحتكما عنده على ما كانا يظنان أنه ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يحق لهما أن يرثاه وراثة النسب؟! أم أنهما أتيا إلى إمام المسلمين وخليفة رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم؟ ومعلوم أنّ مجيء فاطمة رضي الله عنها إلى الخليفة رضي الله عنه كان في الأيام الأولى بعد وفاة النّبي صلى الله عليه وسلم.
* و"لما بويع لأبي بكر رضي الله عنه جاء أبو سفيان إلى علي فقال: غلبكم على هذا الأمر أذلّ أهل بيت في قريش، أما والله لأملأنها خيلاً ورجالاً، قال: فقلت : ما زلت عدواً للإسلام وأهله، فما ضرّ ذلك الإسلام وأهله شيئاً، إنا رأينا أبا بكر لها أهلاً "([14]) فهل هذا رد المخالف على أبي بكر رضي الله عنه، أم رد المُوالي المنافح عن خليفة نبيه صلى الله عليه وسلم وقائد أمته؟!.
* وثبت أنّ الخليفة رضي الله عنه أوْكل إلى علي رضي الله عنه قيادة فرقة حراسة أحد أنقاب ومداخل المدينة، وكان الزبير وطلحة وابن مسعود رضي الله عنهم على مثل ذلك لحراسة الطرق المفتوحة إلى المدينة، احتراساً من غارات المرتدين، وكان ذلك حين خرج الخليفة إلى ذي القَصّة قرب المدينة في الأيام الأولى من وفاة النّبي صلى الله عليه وسلم([15]) فكيف يقبل علي والزبير أن يكونا جنديين لأبي بكر رضي الله عنهم لو كانا معارضين لخلافته كما يشيع ذلك الرافضة ومن يأخذ عنهم من أهل الأهواء والفتن؟!.
* ومما يشهد لصحة مبايعة علي والزبير لأبي بكر رضي الله عنهم في بداية الأمر من غير تأخير: ما ورد في النص الصحيح الذي فيه أنّ أبا بكر رضي الله عنه لما بويع خطب الناس، وذكر عدم حرصه على الخلافة، وعدم رغبته فيها إلى قوله: (فقبل المهاجرون ما قال وما اعتذر به، وقال علي والزبير: إنا نرى أبا بكر أحق النّاس بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنّه لصاحب الغار، وثاني اثنين وإنّا لنعلم بشرفه وكبره، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالنّاس وهو حي)([16]).
* وقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بعد موقعة الجمل: (يا أيها الناس إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئاً، حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر فأقام واستقام حتى مضى لسبيله أو قال: حتى ضرب الدين بجرانه، ثم إنّ أقواماً طلبوا الدنيا فكانت أمور يقضي الله فيها)([17]).
* وجزم علي رضي الله عنه أن الصدّيق والفاروق هما خير الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن خلافتهما هي خلافة النبوة وثبت ذلك عنه من طرق كثيرة برواية ابنه محمد بن الحنفية وغيره، قال الذهبي: وقد تواتر ذلك عنه في خلافته وكرسي مملكته وبين الجم الغفير من شيعته، ثم بسط الأسانيد الصحيحة في ذلك قال: ويقال: رواه عن علي نيف وثمانون نفساً وعدَّدَ منهم جماعة، ثم قال: فقبح الله الرافضة ما أجهلهم)([18]) بل والله ما أجحدهم للحق وأتبعهم للباطل وأشد بغضهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم!.
* ومما يؤكد هذا النص ما جاء في الصحيحين عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه قال: (قلت لأبي: أي الناس خيرٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت ثم من؟ قال عمر: قال: وخشيت أن أقول ثم من؟ فيقول: عثمان، قلت: ثم أنت، قال: ما أنا إلا رجلٌ من المسلمين)([19]).
* قال ابن حجر الهيتمي: أخرج الدارقطني وغيره من طرق كثيرة عن علي رضي الله عنه أنّه لما قيل له، هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً لجاهدت عليه، ولو لم أجد إلا ردائي لم أترك ابن أبي قحافة يصعد درجة واحدة من منبره صلى الله عليه وسلم، ولكنّه صلى الله عليه وسلم رأى موضعي وموضعه، فقال له صلى الله عليه وسلم: قم فصل بالنّاس وتركني، فرضيناه لدنيانا كما رضيه صلى الله عليه وسلم لديننا)([20]).
* وفي النص الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بعثني بنو المصطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من ندفع صدقاتنا بعدك؟ قال: فأتيته فسألته فقال صلى الله عليه وسلم: إلي أبي بكر فأتيتهم فأخبرتهم، فقالوا: ارجع إليه فسله فإن حدث بأبي بكر حدث فإلى من؟ فأتيته فسألته فقال صلى الله عليه وسلم: إلى عمر فأتيتهم فأخبرتهم فقالوا: ارجع إليه فسله فإن حدث بعمر حدث فإلى من؟ فأتيته فقال صلى الله عليه وسلم: إلى عثمان فأتيتهم فأخبرتهم فقالوا: ارجع إليه فسله فإن حدث بعثمان حدث فإلى من؟ فأتيته فسألته صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: إن حدث بعثمان حدث فتباً لكم الدهر تباً)([21]).
ومن لوازم دفع الصدقة أنها لا تدفع إلا إلى إمام المسلمين كونه خليفة النّبي صلى الله عليه وسلم وهو المتولي قبض الصدقات، وهذا يؤكد الإشارات النبوية الصادرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التأكيد على خلافة صاحبه أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وهذا يعلمه الصحابة ومن تبعهم بإحسان، ويجحده الزنادقة والرافضة ومن في قلوبهم مرض من أعدء أمة الكتاب والسنة.
والاستطراد وراء النصوص التي تثبت بيعة علي رضي الله عنه لا تنتهي ولا يسعها مقال واحد ولا مقالان، وما أجمل أن تكون في كتاب تجتمع فيه الأدلة القطعية على إثبات بيعة علي رضي الله عنه لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، من غير تأخير ولا إبطاء، وأنه جدد تلك البيعة مرة ثانية بعد ستة أشهر تأكيداً لها، وقطعاً للطريق أمام دعاة الفتنة المؤسسين لثقافة الكراهية والشك والريبة في بيعة السقيفة، تلك البيعة التي تجلت فيها قيم الشورى، وأخلاق الحوار المبني على الدليل الصحيح النابع من الكتاب والسنة، فيوم السقيفة هو الذي رسم لأمة الكتاب والسنّة طريق الوصول إلى الحكم المبني على الوسائل الشرعية لقيادة المسلمين والسير بهم على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته البيضاء التي لا يزيع عنها إلا هالك...
الاستيعاب: 1/299، الرياض النضرة، 2/46، البداية والنهاية: 6/346، ابن عساكر: تاريخ دمشق، 30/316.
([1]) المستدرك: (4457) قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي في التلخيص. ابن حنبل: المسند، ح21657، سنن البيهقي: ح (21617).
([2]) سنن البيهقي الكبرى: باب الأئمة من قريش، (16316) جامع الأحاديث: مسند أبي بكر (27874) قال ابن كثير: إسناده صحيح. كنز العمال: (14124).
([3]) البداية والنهاية: 6/367.
([4]) البداية والنهاية: 6/306.
([5]) فتح الباري: ح (4240) (4241).
([6]) البداية والنهاية: 6/306-307.
([7]) ابن كثير: السيرة، 4/575.
([8]) الحميدي: الجمع بين الصحيحن، 1/14، باب مسند أبي بكر الصديق t تسأل ميراثها رضي الله عنها.
([11]) صيح الباري: (3278).
([12]) مسند أحمد: (40) قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح، فتح الباري شرح صحيح البخاري: (3349).
([13]) صحيح البخاري: (6230) صحيح مسلم: (3304).
([14]) الصنعاني: المصنف، ك، المغازي، باب: استخلاف أبي بكر وعمر، (9767).
([15]) ابن ابي الحديد وقوله: فخرج على رضي الله عنه بنفسه وكان على نقب من أنقاب المدينة شرح نهج البلاغة: 13/157.
([16]) المستدرك: (4422) وقال على شرط الشيخين، وقال الذهبي: على شرط البخاري ومسلم، سنن البيهقي الكبرى: (16364).
([17]) الاعتقاد للبيهقي: (336) تحفة الأحوذي: باب ما جاء في الخلافة، 6/396.
([18]) الصواعق المحرقة: 1/176.
([19]) الجمع بين الصحيحن: ( 140).
([20]) الصواعق المحرقة على أهل الرفض والزندقة، 1/181.
([21]) المستدرك: (4460) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي قي التلخيص: صحيح.