7- محمد شحرور
أسامة الهتيمي
خاص بالراصد
تعكس كتابات جل العلمانيين العرب حالة من التناقضية الداخلية، ففي الوقت الذي يعيبون فيه على من يصفونهم بالتقليدية من العلماء والمفسرين والفقهاء الإسلاميين مصادرتهم لأية محاولة تجديدية في الفكر الإسلامي – بحسب زعمهم – نجدهم أنفسهم في قمة التطرف الفكري عندما يؤكدون أن ما يطرحونه هو الأصوب والأجدر بالاتباع رغم عدم تخصصهم بذلك، وهو ما يكشف عن الهدف الحقيقي الذي يسعون له، والذي لا يعدو عن كونه محاولة حثيثة للقفز فوق الثوابت الإسلامية التي تمثل الأرضية الصلبة لهذا الدين الحنيف، ما يسهل عليهم بعد ذلك اختراقه وزعزعة أسسه وتضمينه طروحاتهم العلمانية مما يفقد رسالة الإسلام معناها ومحتواها.
ولمزيد من الخداع والتضليل فإن الكثير من هؤلاء لا يفتأون يرددون في كتاباتهم أن ما توصلوا إليه ليس إلا نتيجة لبحثهم العميق وتقصيهم الجاد في الكشف عن جوهر الإسلام ومراميه، بعيداً عن التشوية الذي لحق به جراء الخلط بين النص المقدس وكلام البشر، وهي الحيلة التي انطلت - وبكل أسف - على البعض، والثغرة التي نفذ منها خداع وتضليل العلمانيين لهم هي جهلهم و ضعف اطلاعهم على العلوم الدينية.
وفي غمرة شعور هؤلاء بتضخم ذواتهم وسط هذه الشرائح من المخدوعين والمضللين، نسي هؤلاء ومن اتبعوهم أن ما يطرحونه هو أيضا كلام بشر يمكن أن يُرد، بل إن الخطأ فيه أكثر من الصواب لعدم اختصاصهم بالعلوم الشرعية، وبالتالي فإنه ليس لدى هؤلاء ضامن يضمن لنا أن فهمهم هو ما يعكس المعنى المراد للنص المقدس لتكون النتيجة النهائية - إذا سلمنا جدلا بكونهم مجتهدين- أن كلامهم مجرد فهم بشري لنا أن نقبله كما لنا أن نتحفظ عليه وننقده ونرفضه خاصة إذا تضمن تجاوزا للثوابت الشرعية التي لا مراء فيها.
ويعد أستاذ الهندسة السوري الدكتور محمد شحرور نموذجا على ما تضمنته السطور السابقة، إذ وعلى الرغم من أنه دارس بالأساس للهندسة في روسيا، إلا أنه يزعم أنه قد أولى البحث الديني اهتماماً بالغاً فقضى بحسب تعبيره نحو عشر سنوات كاملة في القراءة الشخصية في العلوم الإسلامية دون الكتابة، ليبدأ بعدها رحلة طرح أفكاره عبر عدة مؤلفات أثارت الكثير من اللغط والجدل ما دفعنا للتعريف بهذا الرجل وأهم أفكاره.
المولد والنشأة:
ولد الدكتور محمد شحرور بن ديب في العاصمة السورية "دمشق" عام 1938م، حصل على بعثة دراسية إلى الاتحاد السوفيتي لدراسة الهندسة المدنية في موسكو عام 1959م حيث تخرج بدرجة دبلوم في الهندسة المدنية عام 1964م، ثم واصل دراسته في جامعة دبلن بإيرلندا عام 1968 للحصول على شهادتي الماجستير عام 1969م والدكتوراه عام 1972 في الهندسة المدنية – اختصاص ميكانيك تربة وأساسات، وعمل بعدها مدرساً في كلية الهندسة المدنية في جامعة دمشق حيث ما زال محاضراً حتى اليوم.
شحرور والفكر:
يحرص شحرور على أن ينفى في أغلب مؤلفاته تأثره بالفكر الماركسي في تناوله للقرآن الكريم والتراث الإسلامي، وأنه لم يتمركس أبدا، رغم أن نضجه كان بمدينة موسكو الروسية في زمن عظمة الفكر الماركسي، لكنه مع هذا يعترف أن نقاشه مع الماركسيين نبهه إلى ضعف ثقافته الدينية إذ يقول في أحد حواراته الصحفية " وكان أول تحدٍ واجهني هناك – يقصد في موسكو - هو الفكر الماركسي المادي الإلحادي فهذا الفكر من الناحية العملية فكر هش، لكنه لدى مناقشتي للماركسيين كان يظهر بشكل واضح أن ثقافتنا الدينية لا تعطينا المرتكزات التي نستطيع على أساسها الإجابة عن العديد من الأمور، وهذا ما ترك لدي العديد من إشارات الاستفهام"، وهذا مثال عملى للفكر الماركسي - الذي يحاول نفيه عن نفسه - القائم على الخداع والتلاعب بالألفاظ فهو يقول: " الفكر الماركسي المادي الإلحادي فهذا الفكر من الناحية العملية فكر هش" لكنه مع هشاشته " ثقافتنا الدينية لا تعطينا المرتكزات التي نستطيع على أساسها الإجابة عن العديد من الأمور"، أي أن ثقافتنا الإسلامية – والصواب ثقافته – أهش من الماركسية الهشة !!
وقد أثبت منهجيته الماركسية عدد من كبار الباحثين الذين تصدو له مثل الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة في كتابه "التحريف المعاصر في الدين"، والأستاذ عادل التل في كتابه "النزعة المادية في العالم الإسلامي"، و الدكتور محمد فاروق الخالدي - وفقه الله - " التيارات الفكرية والعقدية في النصف الثاني من القرن العشرين ".
كما يكشف شحرور بنفسه عن السبب الرئيس الذي دفعه إلى التعمق في الفكر الديني والذي يعود لحرب يونيو عام 1967م، حيث استمع إلى أول خطبة بعد الحرب في أحد جوامع دمشق والتي بحسب روايته أرجع فيها إمام الجامع أسباب الهزيمة في الحرب إلى أن النساء كاسيات عاريات، وبعدها بيومين التقى شخصاً شيوعياً أعاد أسباب الهزيمة إلى صيام شهر رمضان.
وهنا يحاول شحرور الإيحاء بأن اتجاهه للتعمق في الفكر يأتي كرد فعل على وجهتي نظر متناقضتين إزاء الدين الإسلامي، إحداهما رؤية سطحية ساذجة تأثرت بكتب التراث وتفسيرات التقليديين – كما يحلو أن يصفهم -، والأخرى رؤية معادية للإسلام ربما جاءت احتجاجاً على الرؤية الأولى، وبالتالي فإن الحاجة تدفع إلى تنقية الفكر الإسلامي مما شابه وهو الدور الذي - حسب شحرور- لابد أن يقوم به.
إسهاماته ومؤلفاته
كثيرا ما يردد الدكتور شحرور أن كتاباته وإسهاماته الفكرية لم تأت إلا بعد قراءة عميقة طالت مدتها، ففي كثير من لقاءاته يؤكد أن هذه المدة استمرت عشر سنوات متواصلة بدأ بعدها في إنتاجه الفكري الذي كان باكورته عام 1990 بكتابه "الكتاب والقرآن" (822) صفحة، وهي الدراسة التي استغرقت نحو عشر سنوات أخرى حيث حاول خلالها تطبيق بعض الأساليب اللغوية الجديدة في محاولة لإيجاد تفسير جديد للقرآن، مما أثار لغطاً شديداً استمر لسنوات فصدرت العديد من الكتب لبيان تهافت الأفكار الواردة في كتابه.
ثم توالى صدور بعض مؤلفاته ضمن سلسلة (دراسات إسلامية معاصرة) الصادرة عن دار الأهالي للطباعة والنشر في دمشق ومنها :
*(الدولة والمجتمع) عام 1994. (375) صفحة.
*(الإسلام والإيمان – منظومة القيم ) عام 1996. (400) صفحة.
*(نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي – فقه المرأة - الوصية – الإرث – القوامة – التعددية – اللباس ) عام 2000. (400) صفحة.
*(تجفيف منابع الإرهاب ) عام 2008. (300) صفحة.
*(القصص القرآني .. قراءة معاصرة).. المجلد الأول : مدخل إلى القصص وقصة آدم.
يضاف إلى ذلك العشرت من المقالات واللقاءات الصحفية والتلفزيونية.
الكتاب والقرآن
اعتمد شحرور في النظر للقرآن الكريم على نظرية اللا ترادف في اللغة العربية، وأن كل زيادة في المبنى تقتضي زيادة في المعنى، حيث عد أن القول بالترادف في ألفاظ القرآن أهم سقطة وقع فيها مفسرو القرآن الكريم .
وحاول شحرور أن يوحي خلال كتاباته أنه أول من اكتشف هذه النظرية أو على الأقل أو من فعَلها وصبر على تطبيقه في القرآن، على الرغم من أن المعتزلة كانوا أسبق منه إلى ذلك بمئات السنين.
وكان أهم نتائج شحرور من تطبق نظريته أن القرآن ليس الكتاب وليس الفرقان وليس أم الكتاب، وأن الإنزال غير التنزل، وأن الرسول غير النبي، وأن العمل غير الفعل، وأن النزول غير الهبوط، وأن الارتداد غير الرجوع.
واتساقا مع ما ذهب إليه شحرور فإنه وفي محاولة لفهم بعض ألفاظ القرآن لم يميز بين المصطلحات والألفاظ، لأن القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم قد جاء بمعانٍ جديدة لبعض الألفاظ، مثل لفظ الصلاة الذي يعني في اللغة الدعاء، لكن الشرع ( القرآن والسنة) خصص الصلاة بأقوال وأفعال وهيئات معينة.
قال أبو هلال العسكري:" الفرق بين الاسم العرفي والاسم الشرعي أن الاسم الشرعي ما نُقل عن أصله في اللغة فسمي به فعل، أو حكم حدث في الشرع، نحو الصلاة، والزكاة، والصوم، والكفر، والإيمان، والإسلام، وما يقرب من ذلك، وكانت هذه أسماء تجري قبل الشرع على أشياء، ثم جرت في الشرع على أشياء أخر، وكثر استعمالها حتى صارت حقيقة فيها، وصار استعمالها على الأصل مجازاً، ألا ترى أن استعمال " الصلاة " اليوم في الدعاء مجاز، وكان هو الأصل".
فالألفاظ التي تعرض لها مثل: الكتاب والقرآن والنبي والرسول وأم الكتاب والسبع المثاني وغيرها، لم تعد ألفاظاً تحتاج إلى أن نستقرئ معناها اللغوي في المعاجم، بل علينا أن نستقرئ معناها في مصادر الشرع، لذلك فإن كل الفروقات والتمييزات والمعاني التي حاول أن يستنبطها من معاني الألفاظ المعجمية وحدها إنما هى أمر لا طائل تحته، وكل النتائج التي بناها على التفريق بين الكتاب والقرآن، وأن القرآن هو الآيات المتشابهات والسبع المثاني الخ . . . نتائج غير صحيحة، لأن الشرع هو الذي حدّد مضمون هذه الألفاظ، وعلى كل من يريد أن يفهم الدين أن يلِجَه من باب مصطلحاته الخاصة التي رسمها وحدّد معناها.
شحرور والفقه
كما يتضح من النظر إلى عناوين مؤلفات وكتب الدكتور شحرور أنها تضمنت مباحث خاصة بالفقه الإسلامي، ولم تقتصر كما هو الغالب على كتابات العلمانيين في الفكر الإسلامي، لأنهم يؤثرون في الغالب الابتعاد عن هذه القضايا الفقهية التي تحتاج إلى كثير من الوقت والجهد للإلمام بها، فضلا عن أنها ليست الساحة المستهدفة بشكل مباشر من قبل العلمانيين.
وبالطبع فإنه ليس من المنتظر أن تتوافق آراء شحرور الفقهية مع قال به الفقهاء، وإلا فإن شحرور يهدم منهجه الذي يعتمد بالأساس على أنه أكثر وعياً وفهماً من الفقهاء والعلماء السابقين، إلى الدرجة التي يعيب فيها على المسلمين هذا التبجيل والتقدير الذي يولونه للفقهاء ومؤسسي المذاهب الفقهية كالإمام الشافعي مثلا، والذي يرى أنه أصبح لدى الكثيرين صنماً يجب تحطيمه، وبالتالي فقد جاءت هذه الآراء بمخالفة صريحة لما اتفقت عليه المذاهب والمدارس الفقهية الإسلامية، ومن ذلك فتواه بجواز زواج المسلمة من غير المسلم، وأن المنع كان لقرار سياسي حيث استشهد بقوله تعالى "لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة"، إذ يرى أن الله فرق تماماً بين الذين كفروا من أهل الكتاب وبين المشركين وأن الله نهى عن الزواج من المشركين والمشركات وليس من أهل الكتاب، فالقرآن لم يسمهم المشركين، وقد تم تحريم هذا بعد وفاة الرسول – صلى الله عليه وسلم - بقرار سياسي اجتماعي لاعلاقة له بالحلال والحرام !!
والحقيقة أن هذا أمر عجيب من شحرور، فكيف نقول بأن الذين يقولون إن عزيراً ابن الله والذين يقولون إن المسيح ابن الله ليسوا بمشركين مع أن الله عز وجل يقول "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" . [ التوبة : 30 – 31 ].
غير أن شحرور لم يكد ينتهي من فتواه حتى قدم مبررا سياسيا آخر لهذه الفتوى العجيبة، إذ يقول (وإننا نجني على آلاف المسلمات المؤمنات في أوربا وخاصة أمريكا بأنهن يبقين عوانس بدون زواج من أجل هذا الاجتهاد فاتقوا الله فيهن) فهنا بدا أن دوافع الدكتور أيضا في جواز هذا الزواج دوافع سياسية واجتماعية غير أنها هذه المرة دون سند شرعي.
كذلك كان من بين القضايا الفقهية التي تناولها شحرور هي موقفه من حجاب المرأة المسلمة الذي رأى أنه ليس بهذه الهيئة التي يدعو إليها الكثير من الفقهاء والعلماء، فيقول (إن الحجاب الشرعي الإسلامي - بالمعنى والشكل الذي يدعو البعض إلى التمسك به اليوم - لم يرد كتكليف في التنزيل الحكيم كالصلاة والزكاة والصوم مثلاً ..وعلينا - فيما أرى - أن نفرق بين اللباس والحجاب. فالغاية من اللباس - عند الرجل والمرأة عموماً – هي ستر العورة والحماية من الطقس).
ويرى شحرور (أن العورة ذاتها مسألة تختلف باختلاف الزمان والمكان، فما هو عورة عند المرأة ليس عورة عند الرجل، وما هو عورة في القطب ليس كذلك في خط الاستواء، وما كان عورة عند نساء القرن السابع لم يعد كذلك عند نساء القرن العشرين. ولا نعني بقولنا هذا إنها مسألة لا ناظم لها ولا منطق. ولقد أحسن الخليفة عمر حين رسم للباس المرأة خطاً عاماً يحدده فاشترط ألاّ يرق فيشف ولا يضيّق فيصف ثم للمرأة بعد ذلك أن تلبس ما تشاء).
ويستطرد (ولو كان الحجاب تكليفاً بالمعنى الذي يزعمه البعض لما فات عمر التنبيه إليه. ولا علاقة لغطاء الرأس لا من قريب ولا من بعيد بمسألة الحجاب).
ولا تخرج الشبهات التي يثيرها شحرور عن تلك التي أثارها من قبله ومن بعده الكثير من العلمانيين وغيرهم من الرافضين لحجاب المرأة، وكلها شبهات ساذجة إذ هي رؤى تتغافل تماما آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي نصت صراحة على حجاب المرأة وحددت المعايير التي يجب أن تلتزم بها المرأة أينما كانت، وهو ما أوضحه الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه والذي استشهد به شحرور .
وعلى الرغم من أن ما طرحه الخليفة عمر لا يتعارض مع ما جاء به القرآن الكريم وما قال به النبي صلى اله عليه وسلم، إلا أن ما يثير العجب أيضاً أن يستدل شحرور بما قاله الخليفة عمر دون أن ينظر إلى ما جاء به القرآن وأوضحته السنة النبوية، وهو ما يتعارض مع دعوة شحرور نفسه من ضرورة النظر مباشرة إلى القرآن الكريم.
شحرور والعلمانية
بشكل قاطع لا يتردد شحرور في الدعوة إلى العلمانية، بل إنه لم يفتأ يكرر أن العلمانية الديمقراطية هي الفرصة لإظهار الوجه الحضاري للإسلام، وأن غياب هذه العلمانية يؤدي إلى تراجع هذا الوجه الحضاري، فالدولة العلمانية هي التي تكفل وجود حرية الرأي والتعبير واحترام حقوق الإنسان، كما أنه في ظل العلمانية تتحول الأفكار إلى مؤسسات ولا تقتصر على الأشخاص.
ويقر شحرور بأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان صاحب رسالة وأقام دولة غير أن هذه الدولة أصبحت الآن في رحمة الله في حين بقيت الرسالة، وأن هذا أكبر دليل على أهمية الفصل بين الدين والسياسة ومن ثم بين الدولة والدين، إذ الدولة مفهوم سياسي وبالتالي فإن الأولى هو بناء مجتمع إسلامي وليس دولة، والتي يحتاج بناؤها إلى جهد وإبداع إنساني.
وتعني الدولة العلمانية في نظر شحرور تلك الدولة التي تتعامل مع رعاياها كمواطنين بعيداً عن انتمائهم العقدي، وبالتالي فلكل إنسان حرية الفعل، فمن أراد أن يورث ثروته بشكل تقليدي فهو حر، ومن أراد أن يورثه حسبما يرى ويريد فهو حر أيضاً، وعلى الدولة أن تقبل بهذا وبذاك.
ولمزيد من التوضيح فإن شحرور يضرب مثلاً آخر إذ يرى أن من الحرية مثلاً أن يسبح المواطن في البحر كيفما يشاء، فمن أراد أن ينزل إلى البحر مرتدياً الجلباب فله أن يفعل ذلك، كما أن من أراد أن ينزل البحر مرتدياً لباس البحر "المايوه" فليفعل دون أن يمنعه أحد.
وفي محاولة لتأصيل دعواه يرد شحرور على موقف الإسلاميين الرافضين للعلمانية في بلاد الإسلام، مستندين في ذلك إلى أنها جاءت نتيجة صراع مرير بين الكنيسة والمصلحين في أوروبا بعدما وقفت الكنيسة ضد العلم وضد الحرية، وهو السبب الذي لا نجده في الإسلام الذي يدعو إلى العلم والتفكر بل ويحث عليهما، غير أن شحرور يستخف بذلك مؤكدا أن هذا ربما حدث في القديم، لأن هؤلاء العلماء لم يكونوا ليهددوا السلطة السياسية أو يمثلوا أدنى خطر بالنسبة لها في ذلك الزمان، أما الآن فإن الأمر يختلف كلية فمجرد محاولة التجديد أو طرح أطروحة جديدة في الفقه مثلا كفيلة بأن تعرض صاحب هذه المحاولة للهجوم الشديد من قبل هؤلاء الذين يقولون أننا منفتحون ونقبل بالآخر، بل إنك ستجدهم يكشرون عن أنيابهم، لأن ذلك سيهدد مكانتهم مثلما فعلت الكنيسة في أوروبا.
ويلفت شحرور النظر إلى أن العلمانية التي يقصدها ليست العلمانية المستبدة والتي منها مثلاً العلمانية الماركسية اللينينية التي كان من أهدافها تفكيك الدين، فالعلمانية التي يدعو إليها هي العلمانية الديمقراطية التي لا تسعى إلى القضاء على الدين أو تفكيكه بل تسعى لاحتوائه وتطويعه ليكون في خدمتها.
ويكفي استعراض هذا الموقف للكشف عن أن شحرور - يكرر وإن اختلفت الصياغات - دعاوى العلمانيين، ولكن تفرض علينا الموضوعية أن نشير إلى أن منهج شحرور في ذلك هو منهج أكثر مكراً في لصق كل ما يشين – بحسب تصوره وأمثاله - بالفقهاء والمفسرين وأن الإسلام أرقى مما قدمه هؤلاء العلماء، وهي محاولة مكشوفة يسعى عبرها لئن ينقلنا إلى ما لا يمكن مطلقاً أن نُقر به وهو العلمانية.
والأهم أن شحرور يطرح آراءه فيما يتعلق بعلاقة العلماء والفقهاء بسلاطين الدولة الأموية والعباسية وكأنها مسلمات غير قابلة للنقاش، على الرغم من أن كتب التاريخ تمتلئ بالعديد من المواقف المشرفة للكثير من العلماء والفقهاء الذين وقفوا ضد الحكام والأمراء، إما نصحاً أو نقداً أو معارضة، ولعل نموذج الإمام أحمد بن حنبل مع الخليفة المأمون أكبر دليل على ذلك.
بل إن من المستغرب أن يتجاهل شحرور تماماً عصر الخلفاء الراشدين الأربعة الذين جاءوا عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وبقوا على رأس دولة إسلامية قامت بالكثير من الفتوحات، وبالتالي فإن الأمر ليس متعلقاً بالدولة الإسلامية ذاتها بقدر تعلقه بممارسات السلطة التي إما أن تكون صادقة في تمسكها بالإسلام عقيدة وشريعة، وإما أن تكون مخادعة لا يمثل لها الإسلام سوى أداة وهو ما يبرأ منه الإسلام نفسه.
على أية حال إن ما صدر ويصدر وسيصدر عن شحرور لا يمثل أدنى مفاجأة خاصة إذا علمنا أنه أحد ثلاثة حظيت كتاباتهم ووجهات نظرهم بتزكية روبرت بللترو - وكيل وزارة الخارجية الأمريكية السابق – حيث أشاد بكل من محمد سعيد العشماوي من مصر، ومحمد أركون من الجزائر، ومحمد شحرور.