هيثم الكسواني– كاتب اردني
خاص بالراصد
تحدثنا في الحلقة الماضية عن الثورات التي قام بها الخوارج في أعقاب الصلح الذي تمّ بين الحسن بن علي، ومعاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهما، في عام 41هــ، والذي أُطلق عليه اسم "عام الجماعة"، لِما ترتب عليه من اجتماع كلمة الأمة على خليفةٍ واحد، وعودة الوفاق إلى صفوفها بعد أعوام من الخلاف.
فالخوارج –بدلاً من أن يكونوا في صفّ الأمة- اختاروا طريق الشقاق، وسرعان ما استأنفوا تمرّدهم وحركاتهم التخريبية على الخليفة الجديد، معاوية، رضي الله عنه، دون أن يعطوا المسلمين فرصة لالتقاط أنفاسهم، وتجاوز آثار الحروب والخلافات، وهو الأمر الذي سار عليه الخوارج طيلة مسيرتهم الهدّامة.
وسيُلاحَظ -ابتداءً من الآن- أنه بعد مغادرة معاوية الكوفة إلى الشام بعد تحقيق الصلح مع الحسن، فإن عبء مقاومة الخوارج،سيقع بشكل أساسي على المغيرة بن شعبة، رضي الله عنه، الذي عيّنه معاوية، رضي الله عنه، واليًا على الكوفة، حيث تركّز نشاط الخوارج في هذه الولاية، إضافة إلى البصرة، التي أصبح عبد الله بن عامر واليًا عليها.
كما سيُلاحظ أن حنكة المغيرة() سيكون لها دور كبير في التصدّي للخوارج والقضاء على ثوراتهم، رغم أنه كان يغضّ الطرفعن الخوارج الذين لم يحملوا السلاح في وجه الدولة، وطالما بقي الخلاف معهم في إطاره الفكري، فقد كان يؤتى فيقال له: إن فلانًا يرى رأي الشيعة، وفلانًا يرى رأي الخوارج، فيقول: قضى الله أن لا يزالوا مختلفين، وسيحكم الله بين عباده"().
أما حاملو السلاح بوجه الدولة والمسلمين فكان للمغيرة معهم منهج آخر، يقوم على الشدّة والحسم بعد إبداء النصح والإعذار، في انسجامٍ مع سياسة معاوية "فللحلم موضع، وللسيف آخر"()، ويتضح ذلك من قول المغيرة للقائد الذي كلّفه بمقاتلة الخوارج: "يا معقل بن قيس، إني قد بعثتُ معك فرسان أهل المصر، أمرت بهم فانتخبوا انتخابا، فسِر إلى هذه العصابة المارقة الذين فارقوا جماعتنا، وشهدوا عليها بالكفر، فادْعهم إلى التوبة، وإلى الدخول في الجماعة، فإن فعلوا فاقبل منهم، واكففْ عنهم، وإن هم لم يفعلوا فناجِزهم واستعِن بالله عليهم"(.(
وبعد الثورات التي تحدثنا عنها في العدد الماضي، والتي قادها فروة بن نوفل، وابن أبي الحوساء،وحوثرة الأسدي، وتم القضاء عليها، استأنف الخوارج تمرّدهم، بل تسارعت ثوراتهم وتناسلت، ذلك أن الأفهام السقيمة التي كفّرت الصحابة والمسلمين لم تتغير.
خروج فروة بن نوفل للمرة الثانية
مرّ بنا من قبل أن فروة بن نوفل قاد أول ثورة للخوارج ضد الخليفة معاوية فور انعقاد الصلح بينه وبين الحسن، إلاّ أن فروة لم يكمل قيادته للخوارج، لأن قبيلته "أشجع" قامت بإرجاعه قهرا من صفوف الخوارج، وآلت القيادة إلى عبد الله بن أبي الحوساء، لكنّ فروة عاد فثار في الكوفة خلال ولاية المغيرة عليها، فأرسل إليه المغيرة جندا فقتلوه، وقضوا على حركته.
وإذا كانت محاصرة "أشجع" لفروة لم تفلح فيمنعه من الخروج، إلاّ أنها ساهمت في إبعاد أنصاره عنه، ممّا جعل تحرّكه صغيرا، أمكن للمغيرة القضاء عليه بسهولة().
خروج شبيب بن بجرة الأشجعي
وشبيب هذا هو الذي شارك عبدَ الرحمن بن ملجم في قتل علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وعندمادخل معاويةُ الكوفة أتاه شبيب محاولاً التقرب إليه فقال: أنا وابن ملجم قتلنا عليًا، فوثب معاوية من مجلسه مذعورًا حتى دخل منزله، وبعث إلى قبيلة أشجع وقال: لئن رأيتُ شبيبًا أو بلغني أنه ببابي لأهلكنّكم. أخرِجوه عن بلدكم. وهذا يكشف عن عدم رضى معاوية بقتل عليّ، رضي الله عنهما، بخلاف ما يزعم الشيعة.
فلما ولي المغيرة الكوفة خرج عليه شبيب قريب الكوفة، فبعث إليه المغيرة جندا فاقتتلوا فقُتل شبيبٌ وأصحابه().
خروج معين بن عبد الله
بلغ المغيرة-وكان له عيون ينقلون له الأخبار- أن معين بن عبد الله يريد الخروج، فأخذه وحبسه، وبعث إلى معاوية يخبره أمرَه فكتب إليه: إنشهِد أني خليفة فخلّ سبيله.فأحضَره المغيرة وقال له: أتشهد أن معاوية خليفة وأنه أمير المؤمنين؟ فرفض الإقرار بذلك، وقال: أشهد أن الله عز وجل حقّ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث مَن في القبور. فأُمر به فقُتل.ثم قام الخوارج بعد ذلك باغتيال قاتِله()، وهذا يؤكد أن سياسة معاوية كانت التسامح مع الخوارج الذين لا يشكلون تهديدا لاستقرار الدولة.
خروج أبي مريم
وخرج أبو مريم، وهو مولى بني الحارث بن كعب، ومعه امرأتان هما: قطام وكحيلة، وكان أول من أخرج معه النساء، فعاب ذلك عليه أحد قادة الخوارج، فقال: قد قاتل النساء مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومع المسلمين بالشام، وسأردّهما، فردّهما، فوجه إليه المغيرة جابرًا البجلي فقاتله، فقُتل أبو مريم وأصحابه().
خروج أبي ليلى
أماأبو ليلى فقد جاء مسجد الكوفة، فحكّم بأعلى صوته (أي كرّر عبارة: لا حُكم إلاّ لله، التي اشتُهر بها الخوارج) فتبعه ثلاثون رجلًا من الموالي، فبعث إليه المغيرة معقل بن قيس، فقتله في سواد الكوفة، سنة 41، وقيل 42هـ().
ويلاحَظ أن حركات الخوارج السابقة كانت تقتصر على مجموعات صغيرة، لم تكلِّف المغيرة إلاّ القليل من الجهد للقضاء عليها()، بما يوحي بأنهم كانوا يستهدفون إزعاج الدولة الأموية وإضعافها دون أن يكون لهم أمل في القضاء عليها().
خروج بقايا خوارج النهروان
لكن الأمر سيتغير بعد ذلك، وستشهد الأيام القادمة تحركا كبيرا للخوارجالذين كان عليٌّ، رضي الله عنه، قد عفا عنهم يوم النهروان، "وقد عوفي جرحاهم وثابت إليهم قواهم، فلما بلغهم مقتل عليّ ترحّموا على قاتله ابن ملجم، وقال قائلهم: لا يقطع الله يداً علت قذال() عليّ بالسيف، وجعلوا يحمدون الله على قتل عليّ، ثم عزموا على الخروج على الناس، وتوافقوا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يزعمون"()، وهذا يكشف عن عمق الجهل والانحراف عند الخوارج، فكيف يفرحون بقتل أحد الخلفاء الراشدين، الذين جعل النبي صلى الله عليه وسلم سنّتهم متبعة! وهو أحد المبشرين بالجنة، لكنه الجهل والانحراف مهما تلبّسا بلبوس الدين.
وقد تزعّم هذه الجماعة في البداية من الخوارج حيان بن ظبيان السلمي، الذي كان قد أصيب في النهروان، وشُفي من جروحه، فخرج في بضعة عشر رجلا من أصحابه وتوجهوا إلى مدينة الري في بلاد فارس، وظلوا هناك إلى أن جاءهم نعي عليّ، فعادوا إلى الكوفة مستغلّين تسامح المغيرة مع الذين لا يحملون السلاح، فوجدوا في ذلك الجو متنفسّا لهم، فأخذوا يجتمعون ويتذاكرون إخوانهم من الخوارج الذين قُتلوا يوم النهروان().
أخذ هؤلاء يجتمعون في بيت حيّان، فيقرأون القرآن، ويتداولون أمورهم فيما بينهم، وأمّروا عليهم المستورد بن علّفة، ولقّبوه بأمير المؤمنين، وتواعدوا للخروج في غرّة شعبان من سنة 43هـ، ولمّا علم المغيرة بعزمهم على الخروج أرسل رئيس شرطته إليهم، فاعتقل بعض عناصرهم، وأودعهم السجن، الذي بقوا فيه قرابة العام، في حين أفلت المستورد من الاعتقال، وإزاء التحرّك المرتقب للخوارج، أدرك المغيرة خطورة الأمر، فجمع رؤساء القبائل، وطلب منهم المساهمة في التصدّي لهؤلاء الخوارج،وأنذرهم قائلا: "فليكفني كل امرئ من الرؤساء قومه، وإلاّ فوالذي لا إله غيره لأتحولنّ عمّا كنتم تعرفون إلى ما تنكرون، وعمّا تحبّون إلى ما تكرهون، فلا يلُم لائم إلا نفسه، وقد أعذر من أنذر"()، وإشراك المجتمع في مقاومة الخوارج سياسة حكيمة تفتقدها كثير من السياسات المعاصرة.
واجتمع من الخوارج 300 – 400 شخص، برئاسة المستورد، "فجهّز إليهم المغيرة بن شعبة جندا عليهم معقل بن قيس في ثلاثة آلاف"()، وحدثت بين الفريقين معركة حاسمة، قُتل فيها قائدا الجيشين، وانتهت بهزيمة الخوارج، "ولم ينجُ منهم إلاّ بضعة رجال فرّوا من أرض المعركة"().
المراجع
1- الحافظ ابن كثير، البداية والنهاية، طبعة مؤسسة المعارف ودار ابن حزم، بيروت، 1430هـ، 2009م.
2- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، نسخة إلكترونية.
3- د. علي محمد الصلابي، الدولة الأموية: عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار، بيروت، دار المعرفة، الطبعة الثانية، 1429هـ (2008م).
4- د. نايف معروف، الخوارج في العصر الأموي: نشأتهم، تاريخهم، عقائدهم، أدبهم، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الخامسة، 1425هـ - 2004م.
5- د. لطيفة البكّاي، حركة الخوارج: نشأتها وتطورها إلى نهاية العهد الأمويّ خلال (37 – 132هـ)، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، أيار (مايو) 2007م.
- ذكره ابن كثير في وفيات سنة 50هـ، فقال: "كان المغيرة من دهاة العرب، وذوي آرائها، أسلم عام الخندق...، وشهد الحديبية، وكان واقفاً يوم الصلح على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف صلتاً. وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إسلام أهل الطائف هو وأبو سفيان بن حرب فهدما اللاّت،... وبعثه الصدّيق إلى البحرين، وشهد اليمامة واليرموك فأصيبت عينه يومئذ. وقيل: بل نظر إلى الشمس وهي كاسفة فذهب ضوء عينه.