السيداو .. بين الطرح النظري وآليات التطبيق
الثلاثاء 9 فبراير 2016

 

 فاطمة عبد الرءوف– كاتبة مصرية

 

خاص بالراصد

لعلها أخطر مواد السيداو على الإطلاق، تلك هي المادة الثانية من الاتفاقية، والتي تمثل منهجيتها في العمل، فهذه المادة كفيلة بتحويل فكرة المساواة الحرفية التي تدعو لها الاتفاقية من مجرد طرح نظري وفكري إلى واقع عملي تطبيقي حيث تنص هذه المادة على:

"(أ) إدماج مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في دساتيرها الوطنية أو تشريعاتها المناسبة الأخرى، إذا لم يكن هذا المبدأ قد أدمج فيها حتى الآن، وكفالة التحقيق العملي لهذا المبدأ من خلال التشريع وغيره من الوسائل المناسبة.

(ب) اتخاذ المناسب من التدابير، تشريعية وغير تشريعية، بما في ذلك ما يناسب من جزاءات، لحظر كل تمييز ضد المرأة.

(ج) فرض حماية قانونية لحقوق المرأة على قدم المساواة مع الرجل، وضمان الحماية الفعالة للمرأة، عن طريق المحاكم ذات الاختصاص والمؤسسات العامة الأخرى في البلد، من أي عمل تمييزي.

(د) الامتناع عن مباشرة أي عمل تمييزي أو ممارسة تمييزية ضد المرأة، وكفالة تصرف السلطات والمؤسسات العامة بما يتفق وهذا الالتزام.

(هـ) اتخاذ جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة من جانب أي شخص أو منظمة أو مؤسسة.

(و) اتخاذ جميع التدابير المناسبة، بما في ذلك التشريعي منها، لتغيير أو إبطال القائم من القوانين والأنظمة والأعراف والممارسات التي تشكل تمييزاً ضد المرأة.

(ز) إلغاء جميع الأحكام الجزائية الوطنية التي تشكل تمييزاً ضد المرأة".

فالنقطة (أ) تطلب أن يتم وضع مادة في الدستور تنص صراحة وبدون مواربة على مبدأ التماثل والمساواة الحرفية بين الرجل والمرأة في القانون الأعلى لكل البلد وهو الدستور ومن ثم في التشريع والقوانين المختلفة التي تحقق ما تم إقراره في الدستور.

والنقطة (ب) تتحدث عن تشريعات جزائية، أي عقوبات بسيف القانون لمن يخرق مبدأ المساواة هذا، أما النقطة (جـ) فتأخذ خطوة أكبر على أرض الواقع عن طريق إنشاء محاكم خاصة تختص بالقضايا المتعلقة بالتمييز ضد المرأة، والنقطة (د) تخاطب المؤسسات الرسمية للدولة والسلطات لتكون في مقدمة الجهات التي تتبنى المساواة، بينما تنطلق النقطة (هـ) لتطالب المنظمات والهيئات غير الرسمية بل حتى والأشخاص لاتخاذ جميع التدابير المناسبة لإقرار مبدأ المساواة، وتصل المادة الثانية لذروتها في النقطة (و) حيث الحديث عن تدابير شاملة تشريعية وغير تشريعية، أي استخدام كل وسائل القوة الناعمة من إعلام وخلافه بالإضافة لقوة القانون والمحاكم الخاصة لتغيير القوانين الموجودة وإبطالها بل وتغيير جميع النظم المجتمعية والأعراف التي تمثل خروجا على مبدأ المساواة كما تقره الاتفاقية، وتأتي النقطة (ز) وهي الأخيرة في المادة الثانية لتنص صراحة وبمزيد من التأكيد على إلغاء جميع الأحكام الجزائية الوطنية التي تشكل تمييزاً ضد المرأة.

لذلك فليس من المبالغة القول إن المادة الثانية هذه تمثل روح الاتفاقية التي تحول الاتفاقية من مجرد طرح أفكار ومبادئ نظرية لحقيقة واقعية على الأرض، لذلك تحفظت الكثير من الدول العربية عليها، مثل: مصر، سوريا، المغرب، العراق، البحرين، الجزائر، قطر، ليبيا.

أما دولتا موريتانيا والمملكة العربية السعودية، فقامتا بالتحفظ على جميع المواد التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية.

أما باقي الدول العربية فلم تتحفظ على المادة الثانية، يبقى موقف المغرب يكتنفه الغموض حيث أعلن ملك المغرب محمد السادس في رسالته بمناسبة الذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان أمام المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان عن إلغاء تحفظات المغرب على اتفاقية إلغاء  كافة أشكال التمييز ضد المرأة، وكانت المغرب قد صدقت على الاتفاقية عام 1993 وذكر الملك أنه لم يعد هناك حاجة لوجود تلك التحفظات بعد صدور قانون الأسرة المغربي الجديد.

وأصدرت الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب بياناً سجلت فيه ارتياحها لقرار إلغاء التحفظات، وهو ما تعتبره انتصاراً كبيراً لحملة “المساواة دون تحفظ” الخاصة برفع التحفظات والتوقيع على البروتوكول الاختياري للسيداو، إلا  أن  المغرب  أبقى  على   تحفظاته  على  بعض  المواد  الجزئية  على  الرغم  من  ذلك  وبخصوص  المادة  الثانية  فإنه  قد  صرح  عند  التوقيع  بأنه  يقبل  المادة  الثانية  من  السيداو  بشروط  وذلك  النص  الرسمي  لتحفظ  المغرب  على  المادة  الثانية : "تعرب حكومة المملكة المغربية عن استعدادها لتطبيق مقتضيات هذه المادة بشرط:

ــ ألا تخلّ بالمقتضيات الدستورية التي تنظم قواعد عرش المملكة المغربية.

ــ ألا تكون منافية لأحكام الشريعة الإسلامية، علما بأن بعض الأحكام الواردة في مدونة الأحوال الشخصية المغربية التي تعطي للمرأة حقوقا تختلف عن الحقوق المخولة للرجل لا يمكن تجاوزها أو إلغاؤها، وذلك نظرا لكونها منبثقة أساسا من الشريعة الإسلامية التي تسعى، من جملة ما تسعى إليه، إلى تحقيق التوازن بين الزوجين حفاظا على تماسك كيان الأسرة"، وعندما رفع المغرب تحفظاته أبقى على تصريحه الأول فقط الخاص بتنظيم قواعد العرش.

جدوى التحفظ

يمكن تفسير هذا التحفظ من هذه الدول بأنه لون من المناورة، فمن جهة تبدو هذه الدول مسايرة للشرعة الدولية للمرأة، ومن جهة أخرى تلتف عليها حتى لا تتحول هذه المساواة المخيفة لواقع فعلا.

ولكن فاتهم أن مجرد الانضمام للاتفاقية يشبه المصيدة التي يصعب التخلص منها حيث نصت المادة (19) من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لسنة 1969 على اشتراط ألا يكون التحفظ على الاتفاقية منافياً لموضوع الاتفاقية وغرضها كما أكدت المادة (21) من قانون المعاهدات على بطلان أي تحفظ ينافي موضوع الاتفاقية وغرضها، ونصت المادة (28) من اتفاقية السيداو ذاتها على عدم جواز إبداء أي تحفظ يكون منافياً لموضوع هذه الاتفاقية وغرضها.

ومن ثم وبعد الانضمام للاتفاقية مع ترك الباب مفتوحا للتحفظات تحاصر الدول وتطالب برفع تحفظاتها مثلما يفعل المجلس القومي للمرأة بمصر الذي يلحّ على رفع التحفظ على هذه المادة ومن ذلك ما تم نشره على موقعه الالكتروني (هدف اتفاقية السيداو هو تحقيق المساواة في الحقوق بين الجنسين، والقضاء على كل مظاهر وأشكال التمييز بينهما. لذلك لا يجوز إبداء أي تحفظ يخالف هذا الهدف ويتنافى بالتالي مع موضوع الاتفاقية وغرضها، فهذا التحفظ يبطل ولا يترتب عليه أي أثر، ولا يعفي الدولة المصدقة على الاتفاقية من التزامها بأحكام الاتفاقية وبالقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة، بما فيها أشكال التمييز التي تحفظت بشأنها).

ومن ثم يتم خص المادة الثانية من اتفاقية السيداو بدفاع مطول مستفيض من قبل أنصارها وكيف أنها لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، لأنهم لا يستطيعون مهاجمة الشريعة الإسلامية بصورة مباشرة وإلا سيواجهون بعاصفة من الغضب الشعبي، ولذلك البديل الآمن هو الترويج للسيداو باعتبارها لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية التي تخضع لقراءات متنوعة وفقا لخطتهم الهجومية، وتوصف هذه القراءات بأنها قراءات فقهاء بشر غير معصومين، وغالبا ما يتم وصف الفقهاء من هؤلاء النسويات بأنهم فقهاء ذكوريون يخضعون لرهانات الرجال ومن ثم يتم اصطناع فقهاء حداثيين تتطابق رؤاهم مع الشرعة الدولية العلمانية والحداثية لحل إشكالية التناقض والتعارض بين أحكام الشريعة وأحكام السيداو!

إنهم يمتدحون عدالة الشريعة، ثم يسقطون ذلك على السيداو على اعتبار أن العدالة في الشريعة هي بعينها المساواة التي يروجون لها! حيث يزعمون: (الذي نراه بخصوص المادة الثانية من اتفاقية السيداو أنها لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، للأسباب التالية:

- المادة الثانية قد تخالف قوانين أو ممارسات واقعية تمييزية في المجتمع لا شأن للشريعة الإسلامية بها، بل إن المتأمل في هذه القوانين أو الممارسات يدرك أنها هي ذاتها التي تخالف الفهم الصحيح لأحكام الشريعة الإسلامية الغراء التي لا تقر تمييزاً ولا تقبل ظلماً.

- أن التحفظ على المادة الثانية بزعم مخالفتها للشريعة الإسلامية ينطوي ضمناً على الادعاء بأن الشريعة الإسلامية لا تقر المساواة بين الرجل والمرأة، وأن أحكامها تكرس اللامساواة. والحقيقة أن الإسلام ليس مسؤولاً عن الوضعية القانونية والواقعية الظالمة للمرأة في أغلب المجتمعات الإسلامية، لأنها نتاج ثقافة مجتمعية تجاه المرأة تضعها دائماً في وضع الدونية، وليس هذا هو شأن المرأة في الشريعة الإسلامية.

- أن التحفظ على المادة الثانية ليس سببه تعارضا فعليا بين نص المادة وأحكام الشريعة الإسلامية، ولكنها تحفظات احتياطية أبديت على مظنة التعارض بين النص الدولي وبعض الاجتهادات الفقهية. وقد يكون مبعث التحفظ سوء الفهم للمضمون الحقيقي للنص المتحفظ عليه، أو الرغبة في التوافق مع ثقافة مجتمعية غير إسلامية تقوم على الاعتقاد الخاطئ بتفوق أحد الجنسين على الآخر، وهي ثقافة تفرز أنماطاً سلوكية تمييزية ينبغي العمل على تغييرها بالوسائل التشريعية وغيرها من الآليات المناسبة، بدلاً من التحفظ على النص الدولي الذي يقرر الإجراءات والتدابير والآليات الواجب اتباعها لإزالة كل أشكال التمييز ضد المرأة).

إنهم يتلاعبون بكل الأوراق، فالأحكام الجزائية في بلد كمصر ليس مصدرها الشريعة ولا تطبيق الحدود، وهي تعاقب المرأة عقابا أشد في جريمة الزنا والدعارة، ولا تكاد تعاقب الرجل، ويدعو أصحاب الحل الإسلامي لتطبيق الحكم الشرعي في هذه الجريمة، وغيرها ولكن المجلس القومي يدخل من هذه الثغرة ليؤكد أن الأحكام الجزائية التي تمثل تمييزا ضد المرأة ليست من صنع الشريعة حتى يتم التحفظ على المادة الثانية بحجة تعارضها مع الشريعة.

فيقولون: (إن موضوع المادة (2) هو القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة، والتمييز ضد المرأة لا يمكن أن يكون مصدره الشريعة الإسلامية، وإنما النصوص التمييزية في القوانين القائمة. ولا يجوز لدولة أن تحتج بنصوص قوانينها الداخلية لتفلت من الوفاء بالتزاماتها الدولية بتحقيق المساواة إعمالاً للاتفاقية التي صدقت عليها. ونضرب مثالاً على ذلك بالفقرة الأخيرة من المادة الثانية من الاتفاقية التي تلزم الدول "بإلغاء جميع الأحكام الجزائية الوطنية التي تشكل تمييزاً ضد المرأة". وليس في ذلك أدنى تعارض مع الشريعة الإسلامية التي لا تميز في التجريم والعقاب بين الرجل والمرأة، بل هذا التعارض قائم بين نص الاتفاقية وبعض نصوص قانون العقوبات المصري الذي يميز في التجريم والعقاب بين الرجل والمرأة، كما هو الحال في جريمة الزنا أو جريمة ممارسة الدعارة مثلاً. لذلك فنصوص قانون العقوبات التمييزية هي التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية ومع الاتفاقية الدولية في آن واحد. لذلك يكون المقصود من التحفظ على هذه المادة الإبقاء على النصوص التمييزية في التشريع المصري التي تتضمن تمييزاً ضد المرأة تحت ستار التذرع ظلماً بأحكام الشريعة الإسلامية).

تطبيق عملي:

بعيدا عن الفكر والتنظير بإمكاننا عمل مقارنة واقعية بين دولتين إحداهما تحفظت على المادة الثانية من السيداو وهي مصر، والدولة الأخرى لم تتحفظ على المادة وهي تونس، لنستطيع أن ندرك الفارق الواقعي النوعي لواقع النساء في الدولتين، وإلى أي حد تماهت السيداو مع نصوص الدستور ومواد القانون.

1- نموذج مصر: جاء دستور 2014 ليؤكد على قضية المساواة، فالمادة (11) تنص على أنه (تكفل الدولة تحقيق المساواة بين المرأة والرجل في جميع الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفقاً لأحكام الدستور. وتعمل الدولة على اتخاذ التدابير الكفيلة بضمان تمثيل المرأة تمثيلاً مناسباً في المجالس النيابية، على النحو الذى يحدده القانون، كما تكفل للمرأة حقها في تولي الوظائف العامة ووظائف الإدارة العليا في الدولة والتعيين في الجهات والهيئات القضائية دون تمييز ضدها. وتلتزم الدولة بحماية المرأة ضد كل أشكال العنف)، هذا النص الصريح يضع مساواة المرأة بالرجل في كافة الحقوق كمبدأ دستوري بل يشرحه تفصيلا: المساواة في الوظائف العامة والإدارة العليا والهيئات القضائية ويستخدم لفظ "التمييز" في المادة الدستورية حيث "مساواة بلا تمييز" ويعتبر ضمنا أن التمييز هو لون من العنف، لذلك تكون بقية النص (أن الدولة ملتزمة بحماية المرأة ضد كل أشكال العنف).

وهناك أيضاً المادة (53)التي تنص على: (المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعي، أو الانتماء السياسي أو الجغرافى، أو لأي سبب آخر.

تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض).

هذا النص الدستوري كأنه تطبيق عملي للفقرة (ج) من المادة الثانية من اتفاقية السيداو التي تدعو لمحاكم ومؤسسات لمكافحة التمييز، وهنا الدعوة لإنشاء مفوضية لمنع أي تمييز يقع على المرأة، وتلقفت النسويات المصريات هذه الفكرة، وهن الآن في مرحلة مناقشة آلية عمل هذه المفوضية، وعلى المستوى السياسي نصتً المادة (180) من دستور 2014 على تخصيص ربع عدد مقاعد المجالس الشعبية المحلية للمرأة.

وحث الدستور الجديد على أن تتخذ الدولة التدابير الكفيلة بضمان تمثيل المرأة تمثيلاً مناسباً في المجالس النيابية على النحو الذى يحدده القانون، وبالفعل نجحت 89 سيدة، منهن 14 معينات في البرلمان الأخير، ولنا عدد من الملاحظات:

- الدستور المصري لا يتعارض مع المادة الثانية من السيداو، بل هناك مواد تتطابق لما تدعو إليه المادة الثانية رغم تحفظ مصر على هذه المادة.

- القوانين المصرية خاصة فيما يتعلق بمسائل الأحوال الشحصية من زواج وطلاق وميراث هي التي تتعارض مع المادة الثانية من السيداو.

- يبدو في الأفق محاولات لتشكيل هيئة نسوية لمراقبة أعمال التمييز "مفوضية" بحيث تشكل قوة ضغط كبرى على صانعي القرار.

وفي هذا الصدد لا يمكن تجاهل ما قامت به رئيسة المجلس القومي للمرأة ميرفت التلاوي في مطلع العام الحالي من توجيه رسالة إلى مجلس الدولة مطالبة بقبول المرأة في المجلس مراعاة لما جاء في دستور 2014 بما في ذلك قبولها في وظائف قضائية، ورد المجلس بتقديم شكوى ضد التلاوي "نظرًا لما انطوى عليه هذا الخطاب من أسلوب خارج عن المألوف في مخاطبة مجلس الدولة".  

ولا يمكن فهم ما قامت به التلاوي منفردا عما قامت به منذ فترة قريبة عندما أعلنت أمام مجلس الأمم المتحدة لحقوق الانسان في جنيف أن عقلية صانعي القرار في الحكومة الحالية والحكومة القادمة أيضًا هي العقبة الرئيسية أمام تنفيذ أحكام الدستور بشأن حقوق المرأة، وهو استقواء واضح بالخارج، وهو استقواء يتماشى مع روح ونص اتفاقية السيداو التي تمثل الشرعة الدولية والتي تطالب في مادتها (29) للاحتكام الدولي في مسائل التمييز كما سيأتي لاحقا، نستطيع القول إذن إن التمهيد العملي على أرض الواقع والضغوط المكثفة من قبل التجمعات النسوية هي مفتاح سحب مصر لتحفظها على المادة الثانية من اتفاقية السيداو.

2- نموذج تونس: وهي التي لم تتحفظ على المادة الثانية من اتفاقية السيداو، وذلك لأن مجلة الأحوال الشخصية التونسية تقف شاهدة على ماهية المساواة وعدم التمييز الذي يطلب من جميع الدول العربية، فقد أرست المجلة التونسية للأحوال الشخصية حقوقا متعارضة مع أحكام الشريعة الإسلامية، أهمها:

جعل الزواج مدنيا يبرم بحجة رسمية ولا يفك إلا بقرار قضائي، علاوة على منع تعدد الزوجات، وتكريس حق الزوجة في طلب الطلاق، ونظام الاشتراك في الأملاك بين الزوجين.

هذه المخالفات للشريعة الإسلامية أصبح لها مدافعون يدافعون عنها باستماتة، وهؤلاء لهم ثقلهم ودورهم الفاعل في صياغة مستقبل بلدهم، واتضح ذلك في صياغة الدستور الجديد عقب الثورة، فحتى حزب حركة النهضة التزم بالحفاظ على مجلة الأحوال الشخصية والعمل على تطويرها واعتبرها ثمرة لاجتهادات فقهية لا تتعارض مع ما يطرحه من مشروع واعتبرها اجتهادا مقبولا متماشيا مع روح الوسطية والاعتدال في التعامل مع الشريعة الإسلامية!

ومن ثم لم يجرؤ أحد على المساس بمجلة الأحوال الشخصية التونسية، وكانت النتيجة أن دعم الدستور الجديد هذه المخالفات الشرعية بجملة من الإجراءات، إذ نصّ الفصل 65 منه على أن قوانين الأحوال الشخصية هي من القوانين الأساسية، أي قوانين لابد لها من إجراءات خاصة في التعامل معها في البرلمان ولا تتم المصادقة عليها إلا بالأغلبية المطلقة مما يجعل تغييرها من الأمور بالغة الصعوبة.

أما الفصل 46 فقد نص "على أن الدولة تسعى لتحقيق التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة"، هذا يعني أن الدولة التونسية تسعى للمساواة المطلقة بطريقة حرفية، بحيث يكون نصف المرشحين من الإناث ومن ثم السعي ليكون نصف أعضاء البرلمان من الإناث بغض النظر عن الكفاءة أو مصلحة الأمة، في سابقة لا توجد في أي بلد من بلدان العالم، حتى  تلك التي توصف بالديمقراطيات العريقة.

لكن قانون الانتخابات التونسية جاء بالتنصيص في القوائم الانتخابية أي التناصف العمودي فكل قائمة انتخابية حزبية كانت أو ائتلافية لابد أن يكون نصف أعضائها من الإناث ولم يتم النص على ترتيب النساء داخل القائمة مما أثار حفيظة النسويات اللاتي تقدمن بطعون على قانون الانتخابات لأنه وبطريقة التناصف العمودي هذه لن يتحقق الهدف من الفصل (46) وإنما الذي يحققه هو التناصف الأفقي، من خلال إلزام كل الاحزاب والائتلافات الانتخابية التي تترشح في أكثر من دائرة انتخابية بضمان التناصف في رئاسة قوائمها بين الجنسين، وهو أمر يعطي حظوظا كبيرة لرئيسات القوائم بالفوز في الانتخابات، ومن ثم حدوث التناصف الفعلي للنساء داخل البرلمان ولكن الهيئة القضائية قامت برد الطعن وقالت "إن المقصود بالسعي نحو التناصف هو بذل عناية لا غير "وعلى الرغم من فوز النساء بنسبة 31% في البرلمان إلا أن  النسويات التونسيات يرين أن ما تحقق أقل بكثير من المنشود، وأن تونس لا تزال تخضع للعقل الذكوري، وأن تونس لا يزال أمامها طريق طويل للحد من التمييز الجنسي وتحقيق المساواة بين الجنسين.

ومعركة النسويات القادمة في تونس هي قضية المواريث، حيث لا تزال تخضع لأحكام الشريعة الإسلامية، فهن يرين في تقسيم المواريث بحسب أحكام الشريعة تمييزا ضد المرأة! إنها الرغبة المتوحشة للتمدد والتوغل داخل المجتمع وإلغاء شريعته واستبدالها بالشرعة الدولية، ففي رأيهن كانت مجلة الأحوال الشخصية تقدمية وثورية سنة 1956 وليس الآن، هذا ما قالته الرئيسة الجديدة للجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات منية بنت جميع التي طالبت بالمساواة التامة في الإرث، وطالبت وسائل الإعلام بالالتفاف حول هذا المطلب المشروع، وأرجو ألا تكون الخطوة القادمة فتوى بأن المساواة التامة في الميراث في ظل العصر الحديث هو ما يتلاءم مع روح الوسطية والاعتدال في الشريعة الإسلامية.

تشكل مصر نموذجا لدولة تحفظت على المادة الثانية من اتفاقية السيداو ويتم الضغط عليها بشتى الطرق حتى تسحب تحفظها، وفي الوقت ذاته يتم تغيير واقعها حتى يصبح تحفظها لا قيمة له بفعل الواقع الذي يتشكل في ظلال العلمانية والقمع وجماعة النسويات.

وتشكل تونس نموذج دولة لم تتحفظ على هذه المادة، لأنها بالفعل قطعت شوطا كبيرا منذ منتصف القرن الماضي في جعل دستورها وقوانينها الشخصية ترجمة لهذه المساواة رغما عن أنف مواطنيها وعن اعتقادهم، والباب لا يزال مفتوحا على مصراعيه للمزيد من تلك المساواة البائسة.

 
 
 
 
الاسم:  
عنوان التعليق: 
نص التعليق: 
أدخل الرموز التالية: