د. محمد المنصور إبراهيم
رئيس قسم البحوث بمركز الدراسات الإسلامية، جامعة عثمان بن فودي، صكتو، نيجيريا
مقدمة
لا شك أن قارة إفريقيا وطيدة الصلة بالدين الإسلامي، ذلك أنها القارة الأولى التي تمت إليها الهجرة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد استقبل ملك الحبشة آنذاك المهاجرين من الصحابة خير استقبال ووفر لهم الحماية اللازمة().
ولقد كان للعلاقات الودية بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين النجاشي ملك الحبشة والمعاملة الطيبة التي لقيها المسلمون المهاجرون إلى الحبشة أكبر الأثر في توثيق العلاقات بين الأفارقة وبين الإسلام. ثم توغل الإسلام في أعماق إفريقيا عن طريق الفتوحات التي كانت في عهد الدولة الأموية على يد أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بقيادة وزيره ومساعده الصحابي عمرو بن العاص وكذلك المجاهد الكبير عقبة بن نافع وعدد غير قليل من الصحابة والمجاهدين. وقد حصل بين الأفارقة وبين الصحابة الفاتحين من التزاوج والتناسل ما مكن للإسلام ووطد أركانه في البلاد المفتوحة.
ومن ضمن ذلك ما ذكرته الروايات التاريخية من زواج عقبة بن نافع من ابنة أحد ملوك الأفارقة وهو "برمندانا" ملك غانا، وتسمى زوجته الإفريقية هذه مريم، وتلقب بـ (بجو منقو) بمعنى البنت الفريدة التي لم يلد أبواها سواها. وقد أنجبت له ستة أولاد، منهم عثمان تورو، ومن ذريته خرج ذلك العالم المجاهد الذي نشر السنة وحارب مظاهر الشرك والوثنية في غرب إفريقيا، وهو الشيخ عثمان بن فودي رحمة الله تعالى عليه().
المقصود من هذا البحث إلقاء الضوء على بعض الآثار السياسية الدينية لجهود الصحابة متمثلة في دولة أحد أحفاد الصحابي الفاتح عقبة بن نافع؛ الدولة التي ظلت تحكم بالشريعة الإسلامية قرابة مائة عام، وظلت صامدة أمام هجمات الأعداء طوال قرن كامل قبل أن تقع فريسة للاحتلال الصليبي الإنجليزي عام ١٩٠٣م.
انتشار الإسلام في إفريقيا السوداء
كان هناك ثلاثة مسالك رئيسة للإسلام إلى إفريقيا السوداء:
١- عن طريق شمال إفريقيا عبر الصحراء إلى غانا القديمة.
٢- عن طريق النيل من مصر إلى السودان وما جاورها.
٣- عن طريق باب المندب إلى الصومال والحبشة ومناطق الشرق الأقصى من إفريقيا.
ورغم أهمية المصبين الأخيرين -عبر السودان والصومال- فإن مصب شمال إفريقيا عبر الصحراء نحو غرب إفريقيا ظل أكثر تأثيرا وأعظم مردودا، ولعل السبب في ذلك هو التقاء شمال إفريقيا - التي تعربت في النهاية - بإفريقيا السوداء().
وقد لقي القادة المسلمون عناء وشدة في تحويل شمال إفريقيا إلى منطقة إسلامية حيث دفع ثلة من خيرة رجالهم أرواحهم ثمنا لفتح هذه المنطقة. وما إن أتم الله للمسلمين فتح مصر حتى زحفوا متوغلين تلقاء أعماق الشمال، فدكت حوافر خيلهم برقة وطرابلس، واستمروا في تقدمهم داخل الشمال يفتحون البلاد وينشرون فيها الإسلام.
قيادة عقبة بن نافع لفتح شمال إفريقيا
أول من تولى قيادة خيول المسلمين نحو الشمال للجهاد هو القائد المعروف المشهور عقبة بن نافع الفهري بأمر من معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. وذلك حوالي عام ٥٠هـ، فكان تحت قيادته ما يقدر بعشرة آلاف فارس من جند الإسلام، وقد أسلم على يديه كثير من البربر بعد مواجهات عنيفة().
وعقبة بن نافع هو الذي بنى مدينة القيروان واتخذها قاعدة حربية تنطلق منها القوات الإسلامية، ويقال إنه قد توغل صوب الجنوب حتى وصل بلاد السودان الغربي وفتح بلاد التكرور وغانا القديمة().
زواج عقبة من ابنة ملك غانا
يذكر الأستاذ الطيب عبد الرحيم محمد الفلاتي في كتابه "الفلاتة في إفريقيا ومساهمتهم الإسلامية والتنموية في السودان"، أن عقبة صاهر "برمندانا" ملك غانا الذي أسلم على يده، وانتشرت ذريتهم في أرجاء أفريقيا().
ويذكر الشيـخ عبد الله بن فودي إجماع الفولان في غرب الأطلسي بأن جدهم هو عقبة بن نافع الفهري القرشي وأن أخوالهـم التروبي يرتفع نسبهـم إلى «روم بن عيص»، يعني إسحــاق بن إبراهيــم الخليـل عليهما السلام، وينسبــون الفولان الفوطييـن إلى النبي إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. ويلاحظ أن الأسماء التي تطلق على الفولان كلها أسماء لبطون وأفخاذ قبائل عربية().
الشيخ عثمان بن فودي ودعوته الإصلاحية
اسمه ونسبه:
هو شيخ الإسلام العلاّمة عثمان بن محمد فودي (المعلّم باللغة الفلاتية) ابن عثمان بن صالح بن هارون بن محمد غورطو بن جبّو بن محمد ثنبو بن أيوب بن بابا بن موسى جُكُلُّو، الذي هاجر بجماعته من فوتاتورو إحدى عواصم الفلانيين الثلاث حينما وقعت ثورة عظيمة بتلك البلاد في القرن الثالث عشر الميلادي، قاصدين الحجاز، فوصل بعضهم إلى دارفور وباغرما واستوطنوها، وتأخر الباقون في بلاد الهوسا واختلطوا بهم حتى ظهر بينهم الشيخ عثمان بن فودي رحمة الله تعالى عليه.
ولادته ونشأته:
ولد الشيخ عثمان في يوم الأحد 29 من صفر عام 1179هـ الموافق 15 ديسمبر (كانون أول) عام 1754م
في بلدة (طِغِل) على أطراف إقليم جوبر في ولاية صكتو شمال نيجيريا الحالية. ونشأ في أسرة علمية، وفتح عينيه على العلم منذ نعومة أظفاره. تعلم على يد والده ووالدته وجدته، ثم أخذ العلم عن فقهاء بلاده، ودرس على علماء زمانه، وتأثر جدا بشيخه جبريل بن عمر الذي كان شديد التمسك بالتوحيد والسنة وحربا على الشركيات والبدع. وكان الشيخ جبريل قد لقي عناء من قبل الطوارق فطردوه إلى أرض غوبر ثم حج مرتين ولقي عددا من أهل العلم والصلاح هناك وتأثر بالفكر الجهادي السائد هناك في ذلك الوقت، وقد لازمه الشيخ عثمان مدة في بلاد (آهير)، واستفاد من منهجه في الدعوة والتغيير، ومن محاسن الشيخ جبريل أنه أول من بايع تلميذه حينما تأهب لجهاد سلاطين بلاد الهوسا وحرب الوثنية السائدة في ذلك الوقت().
شخصيته وأخلاقه
عرف الشيخ عثمان بن فودي رحمة الله عليه بالتقوى والصلاح مع غزارة العلم ورحابة الصدر وسعة الأفق والتأني الحكيم والعزم الحاسم، وكان خطيبا بليغا، فاضلا، حسن الخلق، جميل العشرة، كريم الصحبة. وكان – رحمة الله عليه – غاية في التواضع، وقّافا عند حدود الله.
عصره وبيئته
كانت حياة الشيخ عثمان رحمه الله في إمارة (غوبر) التي تعتبر أقوى إمارات الهوسا يومها، وشاهد ما يسود مجتمعه من فساد ديني وخُلقي وسياسي. ورغم أن بلاد الهوسا قد دخلها الإسلام في وقت مبكر وعمل بعض سلاطينها على تحكيم الإسلام في شؤون حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلا أنه مع مرور الزمن بدأ تيّار وثني يصاحب حركة التحول الواسعة التي شهدتها البلاد إلى الإسلام عبر مراحلها المختلفة().
وقد وردت إشارات مختلفة في مصادر متفرقة تدل على تقديسهم بعض الأشجار والأحجار وممارستهم السحر بنوعيه الأبيض والأسود وانتشار ذلك بين الناس. يقول أمير المؤمنين محمد بلّو في كتابه إنفاق الميسور: "لقد حدّثونا أن لسلاطينهم وأمرائهم مواطن يركبون إليها، ويذبحون بها، ويرشّون بالدماء على أبواب قريتهم، ولهم بيوت معظمة فيها حيات وأشياء يذبحون لها، ويفعلون للبحر كما كانت تفعل القبط للنيل أيام الجاهلية. ولهم في ذلك أعياد يجتمعون فيها هم وقراؤهم وسلاطينهم وعامتهم لا يحضرها غيرهم، ويسمون ذلك عادة البلد، ويزعمون أن ذلك صدقات ليستعينوا بها على جلب المصالح ودرء المفاسد. فإذا لم تُفعل تلك العادة بطلت معايشهم وقلت أرزاقهم وضعفت شوكتهم، وتوارثوا هذه العوائد كابرا عن كابر"().
والذي يطالع كتاب الشيخ عثمان بن فودي المسمى "نور الألباب" يرى ما بلغ بهذه البلاد من الممارسات الشركية التي كادت تمحو آثار الإسلام بالكلية. ولذلك حكم على مجموعة من الأفعال بأن مرتكبيها كفار وإن صلوا وصاموا وزعموا أنهم مسلمون"().
أسلوبه في الدعوة والإصلاح
لقد اتبع الشيخ عثمان بن فودي رحمة الله عليه في محاولته لإصلاح الأوضاع الدينية والسياسية في هذه البلاد منهجا علميا دقيقا؛ وذلك بالتركيز على ثلاث قضايا رئيسة:
الأولى: العناية التامة بتعليم العامة أصول الدين ومسائل التوحيد، وإبعادهم عما يناقض هذه الأصول أو ينافي كمالها؛ فحذّر من عادات جاهلية وممارسات وثنية كالسحر ونحوه.
الثانية: التحذير من البدع الشيطانية والعادات المخالفة للشرع الإسلامي الحنيف.
الثالثة: محاربة فساد سلاطين بلاد الهوسا، ورفع الظلم والحيف عن الشعوب المغلوبة.
ولقد سعى الشيخ عثمان رحمه الله في سبيل تحقيق هذه القضايا إلى استقطاب مجموعة من الأتباع المخلصين كان معظمهم من غير قبيلته – كما يذكر أخوه عبد الله بن فودي – لنشر أفكاره وآرائه وتعاليمه الإصلاحية ودحض دعاوى المناوئين من علماء السوء.
وكان للشيخ مجلسان للعلم: أحدهما للتدريس وتكوين الكوادر العلمية والدعوية، ويخرج إليه بعد صلاة العصر والعشاء، يدرس التفسير والحديث والفقه والسلوك وسائر فنون العلم.
والمجلس الآخر: للوعظ والتذكير لشحذ همم عامة الناس إلى الالتزام بالإسلام وتطبيق تعاليمه، يخرج له كل ليلة جمعة، ويحضره خلق كثير، رجالا ونساء.
كما كان يخرج إلى الآفاق القريبة والبلدان المجاورة للإفادة والوعظ أياما، ثم يرجع إلى بلده، حتى صار له صيت وشهرة، وصار يقصده الداني والقاصي، وتكون من المستمعين إليه والحاضرين لمجالسه فئة منتظمة سماها (الجماعة)، وهم الذين صاروا له أنصارا في دعوته الإصلاحية().
وعني بتأليف الرسائل والكتب العلمية والدعوية التي يتبين للقارئ من خلالها منهجه في دعوته وطريقته في تجديده لمعالم الدين. فمنها على سبيل المثال:
١- إحياء السنة وإخماد البدعة
٢- إرشاد أهل التفريط والإفراط إلى سواء الصراط
٣- بيان البدع الشيطانية التي أحدثها الناس في هذا الزمان
٤- حصن الأفهام من جيوش الأوهام
٥- تمييز المسلمين من الكافرين
٦- تعليم الإخوان بالأمور التي كفرنا بها ملوك السودان
٧- تحذير أهل الإيمان من التشبه بأهل الكفر والعصيان
٨- نجم الإخوان يهتدون به بإذن الله في أمور الزمان().
مراحل دعوته
تجدر الإشارة إلى أن الشيخ وجماعته اتبعوا في بداية دعوتهم أسلوب الابتعاد عن الاحتكاك بالسلطات السياسية، وعدم الاختلاط بها لكيلا تفرض عليهم هيمنتها وسطوتها السياسية ومنهجها الذي يخالف الشريعة الإسلامية، وحتى لا تدخل أيضا حالة من المواجهة مع هذه السلطات يكون ضحيتها الشيخ وجماعته. وتعتبر هذه المرحلة هي المرحلة الأولى التي مرت بها دعوة الشيخ عثمان بن فودي، وهي تحديدا ما بين عامي 1774م و 1803م.
ومن السمات المميزة لهذه الفترة تركيز الشيخ عثمان بن فودي رحمه الله على دعوة الناس بكافة طبقاتهم إلى الله وتعليمهم المبادئ الأساسية للإسلام، ومحو الأمية الدينية ورفع مستوى الوعي الاجتماعي.
ويأتي في سياق هذه المرحلة مطالبة الشيخ عثمان بن فودي رحمه الله لحاكم غوبر (باوا جن غُورزو) في
أول لقاء معه بعد صلاة عيد الأضحى في الفترة 1889م بما يأتي:
1- أن يحترم الحاكم أصحاب العمائم (العلماء).
2- ألا يقف في طريق أي شخص أو جماعة تريد الاستجابة لدعوته.
3- أن يطلق سراح المسجونين.
4- أن يمتنع الحاكم عن فرض الضرائب الباهضة على رعاياه.
ويرمي الشيخ من وراء هذه المطالب إلى أهداف سياسية بعيدة المدى، وليس في استطاعته أن يقوم بأكثر من الدعوة إلى الله، ثم إن مستوى التفكير والاعتقادات الدينية المخلوطة بالعادات الوثنية الجاهلية لا تسمح له أن يقوم بالخطاب السياسي في تلك الآونة؛ لأن عامة الناس تحتاج في تلك الفترة إلى تربية إسلامية صحيحة تبين لهم طبيعة وأركان الدين الإسلامية. ثم إن الدخول في معركة خاسرة مع دولة (غوبر) القوية وبقية ولايات الهوسا - في ذلك الوقت - تعني انتحار حركة الشيخ عثمان بن فودي قبل نضوج بذرتها، ويعني إخفاقها في الوصول إلى الأهداف السياسية التي رسمتها من قبل.
والمرحلة الثانية التي رافقت دعوة الشيخ عثمان رحمه الله والتي تبدأ من 1804م إلى 1810م وبدأت بدخول الشيخ معركة مع سلاطين الهوسا بعد أن قويت شوكته، واستجاب لدعوته الشعب المقهور.
وكان الشيخ عثمان رحمه الله لا يتصل بالملوك في أول أمره، ولا يزورهم، لكن لما سمع أمير غوبر بأمره وبكثرة جماعته أرسل إليه يستحضره في جملة من العلماء، فحضره في جملة من حضره، ووعظه وطالبه بإقامة العدل بين رعيته وتطبيق أحكام الشريعة؛ فاستجاب له الأمير، وأدناه وقلده منصب الإفتاء، وبدأ بعض العلماء يضمرون له العداء والكراهية لما ناله من حظوة ومكانة عند الأمير، لكن مع ذلك استمر الشيخ يترقى عنده وتزداد جماعته، ويزداد تقديرهم له وطاعتهم إياه حتى بدأ الأمير يتوجس منه خيفة؛ فبدأ يغري الشيخ بالمال، ويستهويه بالعطاء، لكن الشيخ أبى أن ينساق وراء ذلك. فحاول اغتيال الشيخ في يوم عيد بعد أن استدعاه وبعض جماعته إلى قصره، لكن الله كفاهم شره فنجوا منه سالمين، إلا أن الملك استمر في استفزاز الشيخ للدخول معه في معركة مسلحة، وهاجم جماعة عبد الله الفلاني أحد أتباع الشيخ، ونكّل بهم، وقتل منهم الكثير، ونهب أموالهم، وهدد الشيخ بأن يفعل به مثل ذلك غير أن منيته عاجلته فمات (عام 1789م) وخلفه ابنه يعقوب، وبعد وفاته (1794م) ورث عرش الإمارة ابنه (نَفاتا)، ولم يُخف هذا الأخير عداوته للشيخ إلى حد التفكير في قتله، لكن الله دحض خطته، ومات في بضع سنين، وبالتحديد عام (1801م). وخلفه ابنه (يُونْفا)، وهو أشد عداء لمنهج الشيخ الدعوي وأكثر كراهية للإصلاح، فأعلن عداءه السافر للشيخ، وطالبه بالجلاء هو وجماعته، فخرج الشيخ مع جماعته من قرية (طغل) عام 1218هـ إلى قرية (قُدُو) ومعه خمسمائة، ثم تتابعت الهجرة إلى الشيخ حتى بلغوا خمسة آلاف شخص.
أرسل الأمير (يونفا) إلى الشيخ يعلن عليه الحرب، فبايعت الجماعة الشيخ، وأصبح قائدا وأميرا بعد أن كان إماما موجِّها. ومن هنا بدأ يدخل حروبا مع هذا الأمير إلى أن كتب الله له النصر، وأقام دولة إسلامية عاصمة خلافتها (صكتو)، وأذعنت له باقي إمارات الهوسا، بعضها عنوة وبعضها سلما، وبقي يحكم بلاد الهوسا حتى وافاه أجله رحمه الله().
وفاته وآثاره:
توفي الشيخ عثمان بن فودي رحمه الله عام 1233هـ الموافق 1818م بعد أن أعاد للإسلام مجده، وأدخل الدعوة السلفية المباركة إلى القلب الإفريقي، وأبقى للإسلام دولة قوية ظاهرة صامدة أمام هجمات الأعداء، حتى بعد وقوعها فريسة للاحتلال الصليبي بقيت القلوب حية مجاهدة، تقاوم الأعداء، وتحافظ على دينها وعزتها.
يقول الأستاذ أحمد محمد قاني رحمه الله عن حركة الشيخ عثمان المباركة: لقد تركت هذه الحركة بصمتها الفكرية والسياسية على مجتمعات غرب إفريقيا، وما زالت آثار هذه البصمات باقية وعالقة حتى الآن، ولا زالت معالمها تقف شامخة وشاهدة على عظمة هذه الدولة التي استمرت مائة عام منذ 1804م وحتى دخول الاستعمار الأوروبي لتلك البلاد في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ونتج عن ذلك تقسيم الخلافة الصكتية إلى مناطق نفوذ للدول الاستعمارية، وكانت الخلافة الصكتية في فترة قصيرة قد نجحت في السيطرة على مساحة جغرافية كبيرة؛ حوالي 150 ألف ميل مربع، واستطاعت أن تقيم دولة كبيرة شاسعة الأطراف من تشاد إلى مالي شرقا وغربا وإلى ولاية أويو جنوبا().
تراثه العلمي:
أما عن تراث الشيخ عثمان بن فودي وأنصاره فهناك كمّ زاخر من المؤلفات سعدت به المكتبة الإسلامية من يراع هؤلاء المجاهدين. فللشيخ مما يؤثر من المؤلفات ما لا يقل عن مائة وخمسين كتابا ورسالة أكثرها في مجال الدعوة إلى الإصلاح والعودة إلى التوحيد الصافي عن طريق منابع الإسلام الأصلية من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وكثير آخر منها في مجال التعليم والتثقيف وتزكية النفوس. ولكل من وزيريه ما يصل إلى هذا العدد أيضا من المؤلفات في شتى الفنون والعلوم. كما لابنته أسماء وغيرها من تلاميذه ما ينشرح له الصدر من المشاركات العلمية.
فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا، ورفع درجاتهم في المهديين، وجمعهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحشرنا في زمرتهم يوم الدين.
الخاتمة:
الصحابة رضي الله عنهم اعتنوا بقارة إفريقيا وإدخالها في حظيرة الإسلام عناية فائقة، خاصة في عهد أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم، فزحفوا متوغلين في أعماق الشمال فدكت حوافر خيلهم برقة وطرابلس واستمروا في تقدمهم يفتحون البلاد وينشرون الإسلام، ثم توغلوا كذلك صوب الجنوب حتى وصلوا بلاد السودان الغربي وفتحوا بلاد التكرور ومملكة غانا القديمة. وقد استقر بعض الصحابة رضي الله عنهم في أفريقيا وانصهروا في البلاد المفتوحة وفي المجتمعات الإفريقية التي قبلت الإسلام، وهذا يتسق مع مبادئ الإسلام وأصوله التي منها المساواة بين البشر كما قال تعالى ((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير)) [الحجرات: ١٣]، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كلكم لآدم وآدم من تراب. ألا لا فضل لعربي على عجمي.."
ولم يكن المسلمون الفاتحون مدمرين للبلاد مستعبدين الناس لأنفسهم كحال المستعمرين، ودليل ذلك أن قائد الفتح الإسلامي عقبة بن نافع رضي الله عنه بنى في إفريقيا مدينة القيروان التي جعلها قاعدة حربية تنطلق منها الأعمال العسكرية للفاتحين المسلمين.
كان ظهور عثمان بن فودي - رحمة الله عليه - في مجتمع مسلم يسوده فساد ديني وأخلاقي وسياسي، فاهتم بتعليم الناس ومحاربة البدع والفساد السياسي، وتمكن من تربية طلابه تربية صالحة ومنتجة، جعلت منهم أناسا ينشطون لنشر الإسلام الصحيح.
ولما طلب ملك غوبر من ابن فودي مغادرة أرضه هاجر معه ما يزيد على ٥٠٠٠ شخص، ثم كروا معه مجاهدين حتى فتح الله على أيديهم بلاد الهوسا كلها، فسقطت تحت أيديهم كل ممالك الهوسا وإماراتها، رغم أنه لم يشن حربا على المجتمع المسلم ولا على الحكام المسلمين وإن كانوا ظالمين، وإنما عني بالوعظ والنصح والتعليم.
عمت دعوة الشيخ عثمان الإصلاحية جل بلاد التكرور، فانتشرت إلى تشاد شرقا، وإلى مالي غربا، وجنوبا إلى ولاية أويو في آخر شمال نيجيريا الآن. وهي مساحة تزيد على ٢٥٠ ألف كيلو متر مربع. بل تأسست في مالي دولة ماسينة على يد تلاميذ الشيخ عثمان، ووضعت أولى لبناتها في عاصمتها "حمد الله" سنة وفاته وهي عام ١٢٣٣هـ رحمه الله. وظلت دولة عثمان بن فودي قائمة على تطبيق الشريعة الإسلامية، وكانت لغتها الرسمية هي اللغة العربية؛ وساد الأمن في أرجاء البلاد، حتى إن كلابارتون لما ورد هذه الدولة كتب في تقريره أن المرأة في هذه الدولة تعبر من أول البلاد إلى آخرها وهي تحمل طبقا من ذهب ولا يعترضها أحد.
بعد عدة محاولات فاشلة نجح الاستعمار الإنجليزي في غزو مدينة سكتو عام ١٩٠٣م التي تأسست قبل 100 سنة، ومع ذلك فقد ظلت القلوب حية مجاهدة، تقاوم الأعداء، وتحافظ على دينها وعزتها. ولا زالت معالم التربية الإسلامية بارزة في أرضها.
- صالح، عمر محمد: الثقافة العربية الإسلامية في الغرب الإفريقي، مؤسسة الرسالة، ط. الأولى ١٤١٣هـ / ١٩٩٣م، ص ١٩.