سطور من الذاكرة\العدد مائة وثمانية عشر - ربيع الثاني 1434 هـ
هبة الله الشيرازي ينشر الدعوة الإسماعيلية في الأراضي العباسية
الثلاثاء 12 فبراير 2013

 

 هيثم الكسواني

 

 

لم يكن هبة الله الشيرازي كسائر الدعاة الإسماعيليين العلنيين أو السريين، إذ أنيطت به، - إضافة إلى نشر العقائد الإسماعيلية- واحدة من أخطر المهمات وأصعبها، وهي قلب نظام الحكم في دولة الخلافة العباسية ببغداد لصالح الدولة العبيدية الفاطمية، صاحبة المذهب الشيعي الإسماعيلي، وراعيته، وهو ما كاد يتحقق لولا فضل الله ورحمته.

إسماعيلي عريق

نشأ المؤيد في الدين هبة الله بن موسى الشيرازي في أسرة إسماعيلية عريقة، فقد كان أبوه من كبار رجال الدعوة الإسماعيلية في بلاد فارس، في زمن خليفة العبيديين الفاطميين، الحاكم بأمر الله (توفي سنة 411هـ). 

أما هبة الله فوُلد في سنة 390ه، (وقيل سنة 400هـ)، في مدينة شيراز في بلاد فارس، ونشأ على تعاليم المذهب الشيعي الإسماعيلي، وتولى رئاسة الدعوة في شيراز بعد أبيه. وفي تلك الأثناء كان العبيديون الفاطميون الذين يتخذون من القاهرة مركزا لهم ويسيطرون على مصر والمغرب العربي وأنحاء من الشام والحجاز، يسعون للسيطرة على العراق، حيث مقر الخلافة العباسية التي ينضوي تحتها أهل السنة، وكذلك المشرق (بلاد فارس وخراسان وما وراء النهر)، فأخذوا يبثون الدعاة إليهما، حيث كانت (الدعوة) من أهم طرق نشر الفكر الشيعي الإسماعيلي، والحصول على موالين للعبيديين.

من جهة أخرى، استغل العبيديون الضعفَ الذي دبّ في الدولة العباسية، لا سيما أنه وفي سنة 334هـ، كان العباسيون قد وقعوا تحت سيطرة البويهيين، وهم قوم من الشيعة الفرس، وأصبح الخلفاء العباسيون مجردين من الصلاحيات، وصار السلطان البويهي هو الحاكم الفعلي للدولة العباسية، واستمر هذا الوضع حتى سقوط الدولة البويهية على أيدي السلاجقة السنة في سنة 447هـ.

استطاع المؤيد هبة الله الشيرازي أن يوطّد علاقته بالسلطان البويهي عماد الدين أبي كاليجار (حكم بين سنتي 415 - 440هـ)، بل بدأ أبو كاليجار يقرأ كتب الإسماعيلية، ويحضر دروس الشيرازي، كما سمح له بالعمل ونشر الدعوة في مناطق نفوذ البويهيين، ودعموه، ثم دعوه إلى العراق، فقام بنشاط ملحوظ، وبلغ من نشاطه أن خطب في شيراز للمستنصر، خليفة العبيديين الفاطميين.

وهذا التقارب بين البويهيين والفاطميين يمكن عزوه إلى العقيدة الشيعية التي كانت تجمع بينهما والكره لدولة الخلافة السنية، إضافة إلى العلاقة السيئة التي كانت تربط العباسيين بالبويهيين، خاصة في آخر أيامهم، فاتخذ البويهيون من تشجيع دعاة الشيعة الإسماعيلية، ومنهم الشيرازي، سلاحا للضغط على الخلفاء العباسيين.

الخروج من شيراز

 وبالرغم من الدعم البويهي للشيرازي، إلاّ أنه كان يجد المضايقة والرفض من أهالي شيراز الذين لم يكونوا على منهجه ولا مذهبه، وفي سنة 429هـ، صلّى الشيرازي بأتباعه صلاة عيد الفطر قبل المسلمين بيوم، فثارت ثائرة المسلمين، وطلبوا من السلطان أبي كاليجار بأن يطرده ويبعد عنه، كما أن الخليفة العباسي القائم بأمر الله طلب منه تسليم الشيرازي.

في هذه الظروف أُبعِد الشيرازي من شيراز، فتوجه إلى مدينة بسا في بلاد فارس أيضا، ثم إلى الأحواز، لكنه طُرد منها أيضا، فاضطر إلى أن يهرب إلى مصر حيث مقر إمامِه الفاطمي المستنصر بالله.

ومكث الشيرازي سنوات عديدة في مصر يتقلب في المناصب، ومنها رئاسة ديوان الإنشاء، لكنه ظل بعيدا عن المنصب الذي كان يتمناه (داعي الدعاة) لأنه كان على موعد مع مهمة أخرى، لا تقل أهمية عن مهمته الأولى المتمثلة بتوسيع نطاق الدعوة الإسماعيلية وتوطيد نفوذ الدولة العبيدية في المشرق الإسلامي.

   الأنظار نحو العراق

أرسِل الشيرازي إلى العراق مؤيّداً بالمال، لتنفيذ مهمة (بل مؤامرة) خطيرة تتمثل في إسقاط الدولة العباسية السنية، وجعْل العراق والمشرق الإسلامي ضمن نفوذ الدولة العبيدية الشيعية، ولتحقيق هذا الهدف استطاع هبة الله الشيرازي أن يستميل أبا الحارث البساسيري([1]) أحد أبرز الأمراء في الدولة العباسية، وصاحب المكانة الكبيرة عند الخليفة القائم بأمر الله.

 أخذ البساسيري يعمل لمدّ النفوذ الفاطمي إلى العراق، واستفحل أمره، وكاتب الفاطميين بالطاعة، وخلع ما كان عليه مِن بيعة العباسيين، وبعد أن بلغ إفساد البساسيري ذروته، وعزم على نهب دار الخلافة والقبض على الخليفة، استنجد الخليفة القائم بأمر الله بملك دولة السلاجقة، طغرلبك.

دخل طغرلبك إلى بغداد عاصمة الخلافة، في رمضان من سنة 447هـ، وقضى على دولة البويهيين الشيعة، ووضع آخر ملوكها (المسمى بالملك الرحيم) في السجن، أما البساسيري فإنه استطاع الهرب إلى بلاد الرحبة، وهناك كتب إلى المستنصر الفاطمي بأنه على إقامة الدعوة له بالعراق.

لم يطل الأمر كثيرا، إذ استطاع البساسيري وهبة الله الشيرازي بعد ثلاث سنوات من شقّ الصف السلجوقي، والإيقاع بين طغرلبك وأخيه إبراهيم ينّال، وتشجيع الأخير على التمرد، ووعداه بالحصول على مُلك أخيه، وبالفعل تمرد إبراهيم ينّال، فلم يملك طغرلبك إزاء ذلك إلاّ الخروج من بغداد بجنوده، وإنهاء تمرد أخيه، لكن ثمن ذلك على العراق وبغداد ودولة الخلافة العباسية كان كبيراً.

استطاع البساسيري أن يعود إلى بغداد في ذي القعدة من سنة 450هـ، وأن ينفّذ ما كان يتمناه، ويتمناه من ورائه هبة الله الشيرازي، فدخل البساسيري ومعه رايات العبيديين الفاطميين ومكتوب عليها (الإمام المستنصر بالله أبو تميم معدّ أمير المؤمنين) وعاث في العراق فسادا، وقتل من أهل السنة خلقاً كثيرا.

وأقام البساسيري الخطبة للفاطميين وخليفتهم المستنصر، وكتب اسمه على العملة من الذهب والفضة، ونُفي الخليفة العباسي إلى الأنبار، ولم يسمح له البساسيري بالخروج إلاّ بعد أن أرغمه على كتابة اعتراف بعدم أحقية بني العباس بوجود بني فاطمة الزهراء (أي الفاطميين)، وأعاد الشيعةُ في بغداد العمل بطقوسهم التي كانوا يقيمونها خلال حكم البويهيين.

بداية النهاية

نجحت مؤامرة هبة الله الشيرازي، التي نفّذها البساسيري، في أن تجعل العراق السني ولاية تابعة للدولة الشيعية الإسماعيلية، لكنّ ذلك الأمر لم يطُل، إذ استطاع طغرلبك أن يعود إلى بغداد بعد أقل من عام، بعد أن أنهى تمرّد أخيه، وقتله، وتمكّن من أن يعيد الأمور إلى نصابها، وأن يقضي على البساسيري وفتنته، ويقتله، وأن يعيد الخليفة العباسي مكرّما إلى عاصمته.      

   أما الشيرازي فإنه عاد إلى مصر مرة أخرى يجرّ أذيال الهزيمة بعد فشل مؤامرته في العراق، واتُّهم باختلاس بعض الأموال التي كانت تُرسل من مصر إلى المتآمرين، لكنه عُيّن بوظيفة (داعي الدعاة) وهو أعلى منصب بعد منصب الإمام الإسماعيلي (خليفة الفاطميين)، تقديرا لدوره في خدمة مذهبه ودولته.  

 

للاستزادة:

1-    الإسماعيلية تاريخ وعقائد (ص 714- 718) – الشيخ إحسان إلهي ظهير.

2-    التاريخ الإسلامي (الدولة العباسية) (ج6، ص 204- 205) – محمود شاكر.

3-    البداية والنهاية (ج 4، ص 2472 – 2484) – الإمام ابن كثير.

 



[1] - قال فيه الإمام ابن كثير: "أبو الحارث البساسيري التركي، كان من مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة، وكان أولاً مملوكا لرجل من أهل مدينة بَسا، فنُسب إليه، فقيل له: البساسيري، وتلقّب بالمظفر، ثم كان مقدما كبيرا عند الخليفة القائم بأمر الله، لا يقطع أمرا دونه، وخُطب له على منابر العراق كلها، ثم طغا وبغى وتمرد، وعتا وخرج على الخليفة، بل وعلى المسلمين، ودعا إلى خلافة الفاطميين، فتمّ له ما رامه من الأمل الفاسد واستُدرج" البداية والنهاية 4/2484. 

 
 
 
 
الاسم:  
عنوان التعليق: 
نص التعليق: 
أدخل الرموز التالية: