سطور من الذاكرة\العدد الخامس والخمسون محرم 1429هـ
نادر شاه يقضي على الدولة الصفوية
الخميس 10 يناير 2008
 نادر شاه يقضي على الدولة الصفوية
 
في النصف الأول من القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي)، ظهر على مسرح الأحداث في إيران قائد عسكري كبير، هو نادر قلي، الذي سيعرف بدءاً من عام 1148هـ (1735م) باسم نادر شاه، عندما يتوج ملكاً على إيران.
في تلك الأثناء، كان الضعف قد بدأ يدبّ في الدولة الصفوية التي قامت في إيران في عام 907هـ (1501م) وفرضت التشيع على أهلها، وقد بدأ ضعف الصفويين يظهر بعد وفاة خامس ملوكهم، عباس الكبير، سنة 1037هـ، ليبلغ ذروته في عهد الشاه حسين تاسع ملوك هذه الدولة. الذي تولى الحكم في سنة 1106هـ وحتى سنة 1135هـ، إذ غلب على الحكام الصفويين الانشغال بالنساء والخمور.
أغرى ضعف الدولة الصفوية، القبائل الأفغانية، فاحتلت أجزاء من إيران، وعزلت الشاه الصفوي وكذلك فعلت الدولة العثمانية([1]) وروسيا، وهنا يظهر نادر قلي، كقائد عسكري وجبار من الجبابرة، حتى أطلق عليه الأوروبيون لقب "نابليون الشرق"، لكن نشأة نادر كانت نشأة وضيعة، إذ كان صباه راعياً للغنم بالقرب من خراسان، ثم صار قاطع طريق تتبعه عصابة من الأشقياء، وأخذ أتباعه يزدادون بمرور الأيام، حتى بلغ عددهم في عام 1727م حوالي خمسة آلاف محارب([2]) .
أسرع نادر ووضع نفسه وأتباعه تحت إمرة طهماسب الثاني ابن الشاه حسين، وكان نادر قد رأى (أو ادّعى أنه رأى) في منامه عليّاً رضي الله عنه وهو يقلده سيفاً، ويهيب به لإنقاذ إيران، ويعده بالعرش، فكان هذا الحلم بمثابة نقطة تحول في حياته، حيث أيقن انه مكلف بمهمة يجب أن يؤديها([3]).
وبطبيعة الحال لم يكن نادر قلي الحاكم الشيعي الوحيد الذي ادّعى رؤية عليّ في المنام، إذ سبقه في ذلك الشاه إسماعيل الصفوي، مؤسس الدولة الصفوية وأول حكامها، فقد مرّ مع أتباعه بنهر، فعبره لوحده، ودخل كهفاً، ثم خرج متقلداً سيفه، وقال لأتباعه بأنه شاهد المهدي المنتظر، صاحب الزمان، وأنه قاله له: لقد حان وقت الخروج، وأمسك ظهره ورفعه ثلاث مرات ووضعه على الأرض، وشدّ حزامه بيده، ووضع خنجراً في حزامه وقال له: اذهب فقد رخصتك.
ثم بعد ذلك ادّعى إسماعيل أنه رأى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأنه قال له: "ابني... لا تدع القلق يشوش أفكارك"...([4]).
تعكس منامات إسماعيل ونادر وغيرهما من حكام الشيعة قديماً وحديثاً، حالة شيعية فريدة، إذ من المعروف أن الفكر الشيعي يحرم على أتباعه الجهاد أو إقامة الدولة في ظل غياب المهدي المزعوم، فجاءت هذه "المنامات" للحصول على الشرعية، والخروج من مأزق غياب المهدي([5])، كما أنها توضح أن كل الشيعة حتى اللصوص منهم يتسترون بالمذهب الشيعي لتبرير جرائمهم وطغيانهم.
وعلى كل حال فقد تمكن نادر قلي بجيش من أفراد قبيلته (الأفشار) من الاستيلاء على إقليم خراسان، وأخذ يمسك بزمام الأمور، مما جعل طهماسب الثاني ابن الشاه حسين، يستعين به ويعينه قائداً للجيش الصفوي، مما يسّر له الظهور وتدعيم قوته، وتمكن من إلحاق الهزيمة بالأفغان، واسترداد الأراضي التي كان الروس قد سيطروا عليها وكذلك العثمانيون([6]).
أثارت انتصارات نادر شاه ومحاولة بعثه الحياة في الدولة الصفوية، حفيطة الدولة العثمانية، فاندلعت بين الصفويين والعثمانيين معركة في أيلول سنة 1731م، كان على رأس الجيش الصفوي الشاه طهماسب الثاني الذي لقي هزيمة منكرة اضطر على إثرها لعقد الصلح مع العثمانيين والتنازل لهم عن جورجيا وأرمينيا([7]).
وحين سمع نادر عن هذا الصلح ـ لو يكن حينها قد شارك في المعركة لوجوده في خراسان ـ تملكه الغضب، وتوجه إلى أصفهان ـ عاصمة الشاه الصفوي ـ وعزله، ونصّب مكانه ابنه عباس، البالغ من العمر ستة شهور([8])، ونصّب نادر نفسه وصياً على العرش، لكن هذه الوصاية لم تدم سوى ثلاث سنوات، إذ أنه في سنة 1148هـ (1735م)، عزل نادر قلى الشاه عباس الثالث الصفوي، وأعلن سقوط الدولة الصفوية التي دامت قرابة قرنين ونصف، وقيام دولة جديدة محلّها، يقف هو على رأسها، وصار منذ ذلك الحين يعرف بـ : نادر شاه.
التوجه نحو العراق
لم يكن نادر شاه يرى نفسه إلاّ في ساحات المعارك، فهو قائد عسكري لا يخرج من معركة إلا ليدخل في أخرى، وخلال الفترة التي سيطر فيها على زمام الأمور في الدولة الصفوية، أو تلك التي نصّب فيها نفسه ملكاً على إيران بعد إسقاط الصفويين، استطاع نادر أن يعيد لإيران حدودها القديمة بعد طرد القبائل الأفغانية والروس والعثمانيين من الأراضي الإيرانية، التي احتلوها، ولم يكتفِ بذلك إنما كانت له نزعة استعمارية واضحة تعززت بفعل ما كان يملكه من قوة ونفوذ أو ضعف بعض خصومه.
واستطاع نادر شاه خلال سنوات قليلة أن يحتل جزءاً من أفغانستان، وغزا الهند، واستولى على "دِلهي"، وعاد منها وهو يحمل معه كنوز أباطرة المغول، والماسة الشهيرة كوهنور وعرش الطاووس..([9]).
وإضافة لذلك، تطلع نادر شاه نحو العراق، وكأن قدر العراق أن يظل مطمعاً لكل من يحكم إيران، فقبل نادر شاه لا نكاد نجد حاكماً من حكام الصفويين إلاّ واحتل العراق أو حاول احتلاله، وكذلك كان شأن ملوك الامبراطورية الفارسية قبل الإسلام، الذين كانوا يرون العراق امتداداً طبيعياً لدولتهم.
لم يجنِ العراق وأهله من أطماع نادر شاه سوى الويلات والدّمار، ففي الأيام الأولى من عام 1733م، تقدم نادر شاه نحو بغداد، ولمّا تعذر عليه دخولها، فرض الحصار عليها، وطوّقها من جميع جهاتها، فانقطع عنها التموين، وأخذت أسعار الأطعمة فيها ترتفع شيئاً فشيئاً([10]).
يقول د. الوردي: "أدرك نادر قلي أنه غير قادر على فتح بغداد عن طريق الهجوم المباشر وذلك لضعف مدافعه بالمقارنة إلى المدافع العثمانية من جهة، ولمناعة سور بغداد وصمود المدافعين عنه من الجهة الأخرى، فلجأ إلى طريقة الحصار الطويل والتجويع، والواقع أنه نجح في ذلك نجاحاً غير قليل، فقد استفحلت المجاعة في بغداد بحيث صار الناس يأكلون الكلاب والقطط ويمتصون دماءها ويمضغون جلودها"([11]).
وينقل الأثري عن علامة العراق الشيخ عبد الله السويدي، والذي كان شاهد عيان على هذا الحصار الظالم، قوله: "ولم يزل الأمر كذلك إلى نفذ الزاد، وقلّت الميرة، وضألت (نحفت) العباد، ووقعت في حيرة، فأكلوا لحوم الخيل والبغال والحمير، والكلاب والسنانير (القطط)، وامتصوا الدم، ومضغوا الإهاب... وبيعت الأبكارُ العذارى، بأرغفة الشعير، واستولى على الناس رديّ الأفكار، فهم حيارى بل سُكارى لهذا الأمر الخطير"([12]).
وفي كل مرّة كان نادر شاه يضطر فيها لإنهاء حصاره عن بغداد، كان يعود لحصار جديد ولمعركة جديدة تطالها وتطال مدن العراق الأخرى، وخاصة البصرة والموصل وكركوك وأربيل.
التقريب بين السنة والشيعة
وبالرغم من نزعة نادر العسكرية، واعتداءاته المتكررة على الدول السنيّة، وخاصة أفغانستان والعراق، إلاّ أن تحوّلاً غريباً طرأ في سنوات حياته الأخيرة، هذا التحول تمثل بدعوته للتقريب بين السنة والشيعة، وانتقاده للمنكرات التي ابتدعها الصفويون قبله في إيران، ثم دعوته لمناظرة بين علماء السنة والشيعة في مدينة النجف العراقية، عرفت فيما بعد باسم "مؤتمر النجف" الذي انعقد في شوال سنة 1156هـ.
ثمة أسباب عديدة دفعت نادر شاه لتبني مشروع التقريب، أولها أنه بعد احتلاله لأفغانستان السنيّة، أصبح جزء كبير من مملكته يدين بمذهب السنة على خلاف المذهب الشيعي الذي يدين به الإيرانيون بعد أن فرضه عليهم الصفويون، لذلك رأى نادر أن وجود مذهبين مختلفين في مملكته قد يضعفها، وقد عبّر عن مخاوفه تلك لعلامة العراق السويدي فقال له: " إنّ في مملكتي فرقتين: (تركستان) و (أفغان) يقولون (للإيرانيين): أنتم كفار! فالكفر قبيح، ولا يليق أن يكون في مملكتي قوم يكفّر بعضهم بعضاً"([13]).
وقد عدّد د. الوردي أسباباً أخرى دفعت نادر لتبني التقريب، منها أنه أراد أن ينسى الإيرانيون الأسرة الصفوية التي أسقطها هو، باعتبار أن هذه الأسرة هي التي نشرت في إيران سب الصحابة ومواكب العزاء.
ومن الأسباب أيضاً أن نادر شاه كان يحلم بأن يقضي على الدولة العثمانية ويبني مكانها دولة إسلامية كبرى تجمع كل المسلمين، الشيعة وأهل السنة معاً. ومن الأسباب أن نادر لم يكن متعصباً للمذهب الشيعي، أو "لأي من الطائفتين المتنازعتين".. كما أنه كان يحاول التشبه بملك الهند المشهور "أكبر شاه" المغولي، الذي ابتكر ديناً جديداً بغية توحيد الهنود في عقيدة واحدة، وربما أن نادر شاه أراد أن يفعل مثله في العراق وإيران.
ومنها أيضاً أن نادر كان يريد أن يجعل من التشيع مذهباً فقهيّاً خامساً، بجانب المذاهب السنيّة الأربعة([14]).
أيّاً كان هدف نادر من دعوته للتقريب بين السنة والشيعة، فقد عقد مؤتمر النجف، برعايته، وفتح الله على يد الشيخ عبد الله السويدي، رئيس المؤتمر، ورئيس الجانب السني، وأقر علماء الشيعة المجتمعون في النجف بعدم صحة سب الشيعة للصحابة وأنكروا عدداً من بدع الشيعة، لكن ارتباط هذا المؤتمر برغبة وشخصية نادر شاه جعل أثره في إيران محدوداً، وقد تناولنا هذا المؤتمر في عدة مواضع في الراصد، والمهم أن ما اتفق عليه في المؤتمر، لم يُرّد له أن يكون نهجاً في إيران، إذ أن علماء الشيعة الإيرانيين الذين كانوا قد تشربوا التعصب، لم يرق لهم أو لبعضهم، أن يروا إيران تعود لعقائد أهل السنة التي حال الصفويون بينهم وبينها، فقاموا بقتل نادر شاه سنة 1160هـ (1747م) ليموت بموته مشروع حقيقي للتقريب بين السنة والشيعة.
كان نادر يعبر عن فرحه بما حدث في مؤتمر النجف ويقول: "إنما هذا أمر يسّره الله تعالى ووفقني له حيث كان رفع سب الصحابة على يديّ مع أن آل عثمان منذ كان السلطان سليم إلى يومنا هذا، كم جهزوا عساكر وجنوداً، وصرفوا أموالاً، واتلفوا أنفساً ليرفعوا السبّ فما توفقوا في ذلك... فأنا لي منّة على جميع المسلمين حيث أني رفعت السب عن الصحابة وأرجو أن يشفعوا لي"([15]).
ولكن ما حدث هو العكس فبعد اغتيال نادر شاه عاد سب الصحابة في إيران كما كان من قبل ولا يزال مستمراً لليوم !!
للاستزادة:
1 ـ ذرائع العصبيات العنصرية في إثارة الحروب وحملات نادر شاه على العراق في رواية شاهد عيان ـ محمد بهجة الأثري.
2 ـ لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ـ د. علي الوردي.
3 ـ إيران في ظل الإسلام في العصور السُّنية والشيعية ـ د. عبد النعيم حسنين.
4 ـ عودة الصفويين ـ عبد العزيز المحمود.
 
 

[1]) ) ـ فيما سبق كانت الدولة الصفوية تحيك المؤامرات للدولة العثمانية، وتتحالف مع الدول الأوروبية ضدها، وتعيق فتوحاتها في أوروبا، وفوق كل ذلك ارتكب الصفويون من المذابح ضد أهل السنة في إيران وخارجها ما يندى له الجبين، وقد تناولنا هذه القضايا في الراصد في عدة مقالات.
[2]) ) ـ لمحات اجتماعية ج1 ص109.
[3]) ) ـ المصدر السابق ص 109 ـ 110.
[4]) ) ـ عودة الصفويين ص 9.
[5]) ) ـ المصدر السابق ص 10.
[6]) ) ـ إيران في ظل الإسلام ص 84.
[7]) ) ـ لمحات ص 110ـ 111.
[8]) ) ـ المصدر السابق ص 111، لكن بهجة الأثري يذهب إلى أن عمر الشاه الرضيع لم يبلغ تمام الشهرين، ذرائع العصبيات ص39.
[9]) ) ـ ذرائع العصبيات ص 38.
[10]) ) ـ لمحات ص111.
[11]) ) ـ المصدر السابق ص 112.
[12]) ) ـ ذرائع العصبيات ص 55ـ 56.
[13]) ) المصدر السابق ص 90.
[14]) ) ـ لمحات ص119ـ 120.
[15]) ) ـ المصدر السابق ص 138.
 
 
 
 
الاسم:  
عنوان التعليق: 
نص التعليق: 
أدخل الرموز التالية: