المهلّب يفرّق صفوف الأزارقة
هيثم الكسواني
خاص بالراصد : الأزارقة جماعة من الخوارج، ينتسبون إلى نافع بن الأزرق، الذي كان أول خروجه على المسلمين بالبصرة، ثم اشتد عوده في سنة 65 هـ، وقد جمع الأزارقة في دعوتهم وفكرهم وممارساتهم عدداً كبيراً من المنكرات والبدع، يجملها الإمام عبد القاهر البغدادي بقوله: "وزعم نافع وأتباعه أن دار مخالفيهم دار كفر، ويجوز فيها قتل الأطفال والنساء، وأنكرت الأزارقة الرجم، واستحلّوا كفر الأمانة التي أمر الله تعالى بأدائها، وقالوا: إن مخالفينا مشركون، فلا يلزمنا أداء أمانتنا إليهم، ولم يقيموا الحدّ على قاذف الرجل المحصن، وأقاموه على قاذف المحصنات من النساء، وقطعوا يد السارق في القليل والكثير، ولم يعتبروا في السرقة نصابا. وأكفرهم الأمة في هذه البدع التي أحدثوها بعد كفرهم الذي شاركوا فيه المحكَّمة الأولى([1])، فباءوا بكفر على كفر، كمن باء بغضب على غضب، وللكافرين عذاب مهين"([2]).
استمر القتال بين الأزارقة والمسلمين سنوات طويلة، بسبب قوة الأزارقة وشدتهم وكثرة عددهم، وتركز عدد كبير منهم في أطراف الدولة الإسلامية آنذاك، حيث تضعف ـ كما هو معروف ـ سلطة الدولة. يقول الإمام عبد القاهر عن الأزارقة: "ولم تكن للخوارج قط فرقة أكثر عدداً ولا أشد منهم شوكة"([3]).
ويقول في موضع آخر: "ثم الأزارقة بعد اجتماعها على البدع التي حكيناها عنهم بايعوا نافع بن الأزرق وسموه أمير المؤمنين، وانضم إليهم خوارج عمان واليمامة فصاروا أكثر من عشرين ألفاً، واستولوا على الأهواز وما وراءها من أرض فارس وكرمان وجبوا خراجها"([4]).
كان أول ظهور للأزارقة بالبصرة في عهد عبد الله بن الزبير الذي سيّر أكثر من جيش لمقاتلتهم، لكن الهزيمة كانت من نصيب هذه الجيوش، والأزارقة يحققون الانتصار تلو الآخر.
وإزاء الهزائم المتتالية التي كان يتعرض لها المسلمون من قبل الأزارقة، لجأ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه إلى رجل ذي مواصفات خاصة، إنه المهلّب بن أبي صفرة الأزدي، الذي كان حينها والياً على خراسان منذ عام 65هـ.
يقول الإمام ابن كثير في ترجمة المهلّب: "أحد أشراف أهل البصرة ووجوههم ودهاتهم وأجوادهم وكرمائهم، ولد عام الفتح.... وكان من الشجعان، وله مواقف حميدة، وغزوات مشهورة في الترك والأزارقة، وغيرهم من أنواع الخوارج"([5]).
وبعد أن جاء أمر ابن الزبير إلى المهلّب لقتال الأزارقة، توجه المهلب من خراسان إلى البصرة "وانتخب من جندها عشرة آلاف، وانضم إليه قومه من الأزد فصار في عشرين ألفاً، وخرج وقاتل الأزارقة وهزمهم عن دولاب الأهواز إلى الأهواز، ومات نافع بن الأزرق في تلك الهزيمة، وبايعت الأزارقة بعده عبيد الله بن مأمون التميمي، وقاتلهم المهلب بعد ذلك بالأهواز، فقتل عبيد الله بن مأمون في تلك الوقعة، وقُتل أيضاً أخوه عثمان بن مأمون مع ثلاثمائة من أشد الأزارقة، وانهزم الباقون إلى أيدج، وبايعوا قطري بن الفجاءة، وسموه أمير المؤمنين، وقاتلهم المهلب بعد ذلك حروباً كانت سجالاً، وانهزمت الأزارقة في آخرها إلى سابور من أرض فارس، وجعلوها دار هجرتهم، وثبت المهلب وبنوه على قتالهم تسع عشرة سنة، بعضها في أيام عبد الله بن الزبير، وباقيها في زمان خلافة عبد الملك بن مروان وولاية الحَجاج على العراق"([6]).
يكشف النص السابق بعضاً من عوامل النصر على الأزارقة منها:
1ـ اختيار قائد فذ بمواصفات ومؤهلات المهلّب.
2ـ سياسة النفَس الطويل والثبات على محاربتهم، بحيث أن الأمر احتاج إلى أكثر من 19 سنة للقضاء عليهم، ولم ينته القتال والمعارك بوفاة المهلب سنة 82هـ، بل تابع ابنه يزيد قتالهم من بعده.
3ـ إعداد الجيوش الضخمة، فقد أعدّ المهلب جيشاً قوامه عشرون ألف مقاتل، في حين كان يتراوح الجيش الذي كان يوجه لقتال الأزارقة في بادئ الأمر بين ألفين وثلاثة آلاف مقاتل.
4ـ نشير أيضاً إلى تكتيك اتّبعه المهلّب، وأشارت إليه بعض المصادر، تمثل باتباع سياسة "فرّق تسد" من خلال تفريق صفوف الأزارقة وإضعافهم، وإشغالهم ببعض مواضع الخلاف بينهم، الأمر الذي سهّل عليه هزيمتهم والقضاء عليهم([7]).
وبشيء من التفصيل عن هذه السياسة، يقول د. علي الصّلابي: "كانت سياسة المهلّب تقوم على النفس الطويل في محاربة الخوارج، وكان ينتظر تفجيرهم من الداخل، حتى يهون عليه أمرهم ويسهل القضاء عليهم، فقد كتب إلى الحَجّاج: إني أنتظر منهم ثلاث خصال: موت صاحبهم قطري بن الفجاءة، أو فرقة وتشتيتاً، أو جوعاً قاتلاً.
ولم تخطئ تقديرات المهلب للخوارج إذ سرعان ما دبّ الشقاق في صفوف الأزارقة، فما كان من المهلّب إلا أن انتهز الفرصة فصعّد الخلاف في صفوفهم، فعمد إلى حيلة ناجحة، فقد عرف بين الخوارج رجلاً يصنع السهام المسمومة، فأرسل المهلّب أحد أصحابه، بكتاب أمره أن يلقيه بين عساكر قطري سراً كتب فيه: أما بعد، فإن نصالك وصلت وقد أنفذت إليك ألف درهم. فلما استوضح من الصانع أنكر، فقام قطري بن الفجاءة بقتله، فخالفه بذلك عبد ربه الكبير ووقع خلاف جديد.
وتعميقاً للخلاف في صفوف الخوارج، جنّد المهلب رجلاً نصرانيا، وأمره أن يسجد لقطري بن الفجاءة، فلما شاهد الخوارج أنكروا ذلك عليه، وقتلوا النصراني واتهموا زعيمهم بتأليه نفسه.
وأخذ الخوارج يقتتلون فيما بينهم، بينما المهلّب ينتظر النتائج النهائية التي تسفر عنها هذه التصفيات ليتفرغ لها، مما جعله لا يمتثل لأمر الحجّاج عندما طالبه بمقاتلتهم، بل كتب له: إني لست أرى أن أقاتلهم ما دام يقتل بعضهم بعضاً، فأناهضهم حينئذٍ، وهم أهون ما كانوا وأضعفهم شوكة إن شاء الله تعالى"([8]).
وبعد أن دبت الخلافات واستفحلت بين الأزارقة، كما أراد المهلب، تكشف السطور القادمة نهايتهم وانتهاء أمر جماعتهم:
"... فدامت الحرب في تلك السنين بين المهلب وبين الأزارقة كرّا وفرّا فيما بين فارس والأهواز، إلى أن وقع الخلاف بين الأزارقة، ففارق عبد ربه الكبير قطريّاً وصار إلى واد بجيرفت كرمين في سبعة آلاف رجل، وفارقه عبد ربه الصغير في أربعة آلاف، وصار إلى ناحية أخرى من كرمان، وبقي قطري في بضعة عشر ألف رجل بأرض فارس، وقاتله المهلب بها، وهزمه إلى أرض كرمان... ثم قاتل عبد ربه الكبير فقتله، وبعث بابنه يزيد بن المهلّب إلى عبد ربه الصغير، فأتى عليه وعلى أصحابه... وكان عبيدة بن هلال اليشكري قد فارق قطريّاً، وانحاز إلى قومس، فتتبعه سفيان بن الأبرد، وحاصره في حصن قومس إلى أن قتله وقتل أتباعه، وطهّر الله بذلك الأرض من الأزارقة، والحمد لله على ذلك"([9]) .
للاستزادة:
1ـ الفرق بين الفرق ـ عبد القاهر البغدادي.
2ـ البداية والنهاية ـ الإمام ابن كثير.
3ـ الدولة الأموية ـ الدكتور علي الصلابي.
[1]) ) ـ المحكّمة الأولى: أول فرق الخوارج ظهوراً، وهم الذين رفضوا اتفاقية التحكيم بين علي ومعاوية وجيشيهما في أعقاب معركة صفين سنة 37هـ، وخلع هؤلاء الخوارج علياً ومعاوية، ورفعوا شعار "لا حكم إلاّ لله" وقاتلوا عليّاً فقاتلهم.
يقول البغدادي بعد أن أورد شيئاً عن أفكارهم وسلوكهم: "فهذه قصة المحكمة الأولى، وكان دينهم إكفار علي، وعثمان، وأصحاب الجمل، ومعاوية، وأصحابه، والحكمين، ومن رضي بالتحكيم، وإكفار كل ذي ذنب ومعصية". الفرق بين الفرق ص81.
[2]) ) ـ الفرق بين الفرق ص84.
[3]) ) ـ المصدر السابق ص 82ـ 83.
[4]) ) ـ المصدر السابق ص 85.
[5]) ) ـ البداية والنهاية 9/53.
[6]) ) ـ الفرق بين الفرق ص 85 ـ 86.
[7]) ) ـ سبق للراصد التركيز على الإستراتيجيات التي اتبعها أهل السنة وحكامهم على وجه الخصوص في محاربة الفرق المنحرفة، حيث تناولنا في هذه الزاوية من العدد الماضي أسلوباً اتبعه وزير السلاجقة الفـذ نظام الملك لمحاربة المد الشيعي والإسماعيلي، تمثل بإنشاء "المدارس النظامية" التي عنيت بنشر مذهب أهل السنة ومقاومة الفكر الباطني. ويمكن مشاهدة هذا المقال على الرابط التالي: http://alrased.net/lines_from_history.php . الراصد
[8]) ) ـ الدولة الأموية 1/ 631.
[9]) ) ـ الفرق بين الفرق ص 86 ـ 87.