هيثم الكسواني
استمرت علاقة الفاطميين العبيديين بالصليبيين بعد وفاة وزير الفاطميين، الأفضل بن بدر الجمالي، الذي ذهب بعيداً في علاقته مع الصليبيين، وسعى للتحالف معهم ضد دولة السلاجقة السنيّة، التي كانت منهمكة في قتال الصليبيين منذ حملتهم الأولى على المشرق الإسلامي، كما بيّنا في العدد الماضي من هذه الزاوية من الراصد.
اغتيل الوزير الأفضل([1]) في سنة 515هـ (1121م) بعد حياة مليئة بموالاة الصليبيين، وخذلان المسلمين، وصحوة متأخرة لاسترداد أملاك الدولة العبيدية الفاطمية، وكان الوزير الأفضل الرجل القوي في الدولة، فهو الوزير صاحب السلطة وأمير الجيوش والمشرف على شئون القضاء والدعوة، والذي في عهده بدأت بواكير الحركة الصليبية وحملاتها المدمرة على المنطقة.
وبرغم تعاطف الدكتور أيمن فؤاد سيد مع الدولة العبيدية الفاطمية، إلاّ أنه لا يجد مفرّاً من القول: "ولاشك أن الأفضل يتحمّل وحده وِزر سقوط مدن الشام الساحلية التي كانت للفاطميين في أيدي الفرنج، فقد اتصف موقفه تجاه ما كان يحدث باللامبالاة المتناهية، وأدى هذا التهاون إلى استيلاء الفرنج على عكا وطرابلس وجبيل وعِرْقة وبانياس، وبيروت، وصيدا، وتِبْنين وأخيراً صور... بل بلغ الأمر إلى أن وصل بُلْدوين، ملك بيت المقدس، على رأس حملة على الأراضي المصرية حتى الفَرَما، واضطر الأفضل إلى مهادنته لعجزه عن مواجهة قواته"([2]).
تولى الوزارة في مصر بعد مقتل الأفضل، المأمون البطائحي، الذي كان له دور في قتل سلفه، وبرغم ما كان من ودٍّ بين الآمر العبيدي ووزيره البطائحي، إلاّ أن العلاقة ساءت بينهما فيما بعد، لينتهي الأمر بعزل البطائحي وقتله، فاستقل الآمر بالحكم، وقد اشتهر بانغماسه "في لهوه وملذّاته، وعشقه للجواري البدويات اللائي أقام لواحدة منهن بناءً بجزيرة الروضة يعرف بـ "الهودج" كان يزورها فيه"([3]).
يقول د. محمد سهيل طقوش: "ويلمس المتتبع لتاريخ الدولة الفاطمية بعد الأفضل فتوراً ملحوظاً في مواجهة الصليبيين([4])، حيث برز اتجاه قوي في الدوائر الفاطمية، وبخاصة بين متطرفي الشيعة، لمهادنة الصليبيين، وعدم طردهم من جنوب بلاد الشام حيث يشكل بقاؤهم ضماناً لحماية الدولة الفاطمية المتداعية من أطماع السلاجقة. لكن الإمام الآمر الفاطمي لم يستطع أن يكشف عن سياسته المتراخية تجاه الصليبيين حرصاً على مكانته في العالم الإسلامي"([5]).
رأى الآمر، خليفة العبيديين الفاطميين، أن يسترضي الرأي العام، فأنفذ حملة كبيرة من عسقلان لحصار يافا، وتمكنت هذه الحملة من إحكام الحصار على يافا من البر والبحر، ولكن وصول النجدات الصليبية إلى يافا جعل الفاطميين يفكرون في الانسحاب إلى يبنا (بين يافا وعسقلان). وفي يبنا دارت بين الفاطميين والصليبيين معركة انهزم فيها الفاطميون، فولّوا الأدبار، واقتفى الصليبيون أثرهم، يقتلون ويأسرون، وينهبون ما تصل إليه أيديهم([6]).
"بعد ذلك لم تلبث أن انكشفت سياسة الخليفة الآمر الفاطمي في مسالمة الصليبيين، فتخلص الفاطميون من القوات الدمشقية السنيّة التي كانت تشترك معهم في الدفاع عن صُور"([7]).
كانت مدينة صور، وهي إحدى المدن الساحلية المهمة في بلاد الشام، قد استعصت على الصليبيين، رغم غاراتهم المتكررة، وعندما رأى أهل صور عجز الدولة العبيدية الفاطمية عن حمايتهم من الصليبيين في كثير من الأحيان، توجهوا نحو طغتكين، حاكم دمشق من قبل السلاجقة، طالبين حمايته بوصفه أكبر قوة إسلامية قريبة منهم.
استجاب طغتكين إلى طلب أهالي صُور، وأرسل إليهم جنوداً، وجعل عندهم والياً من قبله اسمه مسعود، وبعث معه المؤن والأموال، فوزعها على أهل صور حتى طابت نفوسهم، وخلال تلك الفترة ظلت الخطبة للآمر العبيدي، ولم يغير طغتكين العملة، إذ كان الهدف هو المساعدة في حماية صور من الصليبيين، لا منازعة الفاطميين فيها، وكتب طغتكين إلى الأفضل، وزير الفاطميين آنذاك، يعرّفه صورة الحال، ويقول له: متى وصل إليها من مصر([8]) مَنْ يتولاها، ويذبّ عنها، سلّمَها إليه، فشكره الأفضل على ذلك.
أما أهل صور، فقد أوضح لهم طغتكين سبب قدومه إليهم قائلاً: أنا ما فعلت ما فعلت إلاّ لله تعالى، لا رغبة في حصن ومال، ومتى دهمكم عدوّ جئتكم بنفسي ورجالي([9]).
وبدلاً من أن يساعد الفاطميون السلاجقة في الدفاع عن صور وأهلها، ارتكبوا مؤامرة جديدة، تعيد إلى الأذهان مؤامرتهم على بيت المقدس في سنة 491هـ (1098م) عندما هاجموا القدس وأخذوها من السلاجقة ثم فرّطوا فيها، واحتلها الصليبيون وارتكبوا مجزرة مروعة ضد أهلها المسلمين، وهكذا استعمل الفاطميون قوتهم ضد المسلمين السنة لا ضد الصليبيين.
قام الفاطميون في عهد خليفتهم الآمر ووزيرهم البطائحي في صور، بما قام به الأفضل سابقاً في بيت المقدس، ففي سنة 516هـ (1022م) قَرّر العبيديون الفاطميون استرداد صُور من قوات دمشق السنيّة، بدلاً من مساعدتهم في حمايتها ضد الصليبيين، وأرسل الفاطميون أسطولاً إلى صور، قام بإلقاء القبض على واليها سيف الدولة مسعود، وتعيين وحشي بن طلائع واليا عليها من قبل الفاطميين([10]).
اعتبر المؤرخون خطوة الفاطميين هذه تعاوناً صريحاً مع الفرنج الصليبيين ضد المسلمين، ونذير شؤم على صور وأهلها، لأنه أتاح للصليبيين مهاجمتها مرّة أخرى، فقد كان الصليبيون يرهبون مسعود لشهامته وشجاعته ومعرفته بالحرب ومكايدها([11]).
وينقل الباحث يوسف إبراهيم عن ابن تغري بردي استنكاره لما قام به الفاطميون من اعتقال سيف الدولة مسعود، فيقول: "وهذه زيادة في النكاية للمسلمين من صاحب مصر، فإن سيف الدولة المذكور (مسعود) كان قائماً بمصالح المسلمين، وفعل ما فعل مع الفرنج من قتالهم، وحفظ سور المدينة هذه المدة الطويلة، فأخذوه منها غصباً، وخلّوا البلد مع من لا قبل له بمحاربة الفرنج، فكان حال المصريين في أول الأمر أنهم تقاعسوا عن نصرة المسلمين، والآن بأخذهم سيف الدولة من صور صاروا نجدة للفرنج"([12]).
لمّا علم الصليبيون بالأمر، وجدوا الفرصة سانحة لحصار صور ومهاجمتها، فأيقن واليهم المعيّن من قبل الفاطميين، أنه لا قبل له بالدفاع عنها، لقلة الجند والمؤن، وأرسل إلى خليفة الفاطميين، الآمر، يقترح عليه إعادة صور إلى طغتكين، فوافق، فعادت إلى طغتكين، الذي رتب بها العدد اللازم من الجند والسلاح([13]).
اشتد حصار الصليبيين لصور، فحث أهلها حكام القاهرة (العبيديين) ودمشق (طغتكين) على النهوض لنجدتهم قبل فوات الأوان، فأرسل طغتكين إلى الآمر، خليفة العبيديين الفاطميين، وقادته يحثهم على التحرك السريع لنجدتهم، ولكن رسائله لم تجد حماساً كما كان يأمل([14]).
سقطت صور في نهاية الأمر "وارتفع من مصر صوت خافت يتهم الخليفة الآمر الفاطمي بأنه فرّط في صور، ويطالب الخلافة الفاطمية باتخاذ سياسة إيجابية في الجهاد ضد الصليبيين بالشام"([15]).
وأبدى المؤرخ ابن تغري بردي استياءه من تفريط الفاطميين، وموقفهم المائع واللامسؤول فقال: "وما أبقى أهل صور، رحمهم الله تعالى، ممكنا في قتالهم مع الفرنج في هذه السنين الطويلة مع عدم المنجد لهم من مصر"([16]).
وفي سنة 524هـ (1130م) اغتيل الآمر بأحكام الله، خليفة العبيديين الفاطميين، وتولى الحكم بدلاً منه، الحافظ لدين الله، وكان الحافظ هذا من أشد المتحمسين لمسالمة الصليبيين.. وظلت الدولة الفاطمية على هذا الحال، لا تستجيب لأي نداء بضرورة الوحدة الإسلامية، والجهاد ضد الصليبيين، وكانت تقف عقبة في طريق ذلك، وكان الخلفاء الفاطميون يتخلصون من الوزراء الذين ينادون بفكرة الجهاد على وجه السرعة([17]).
وفي عهد الحافظ الفاطمي هذا، تولى رضوان بن ولخشي الوزارة (531هـ / 1137م)، ليكون أول وزير سني في الدولة الفاطمية، وكان الحافظ ـ قبل تولي رضوان الوزارة ـ قد ولّى أرمنياً نصرانياً الوزارة، هو بهرام، الذي مكّن لأهل طائفته في مصر.
كان من الطبيعي أن يؤدي اتخاذ الحافظ العبيدي وزيراً نصرانياً إلى مسالمة الصليبيين وإعاقة الجهاد، لكن الأمور بدأت تتبدل مع تولي السني رضوان الوزارة، بعد تغلّبه على بهرام وفرض الأمر الواقع على الحافظ، وكان رضوان من أشد المتحمسين للجهاد ضد الصليبيين، وأنشأ ديواناً جديداً أطلق عليه اسم "ديوان الجهاد" وفي الوقت نفسه أخذ يطارد الأرمن النصارى، ويقصيهم عن مناصب الدولة، وبسبب ذلك تعرّض الوزير رضوان لمضايقات ومؤامرات الحافظ الفاطمي، ففرّ نحو الشمال ليستعين بعماد الدين زنكي، أحد أبطال الجهاد ضد الصليبيين([18]).
ولم تجد محاولات رضوان صداها، إذ قُتل على يد الحافظ، وأخمدت إحدى المحاولات القليلة في عهد الدولة الفاطمية لجهاد الصليبين.
تكرر الأمر مع تولي سني آخر منصب الوزارة، هو العادل بن السلار، في سنة 544هـ (1150م) إذ سعى ابن السلار إلى معاودة الجهاد ضد الصليبيين وعمل على تقوية عسقلان لتكون قادرة على الصمود أمام هجمات الصليبين، حتى مقتله في سنة 548هـ (1153م).
وحاول ابن السلار خلال توليه الوزارة الاتصال بنور الدين محمود، أحد أبطال الجهاد ضد الصليبيين آنذاك، وابن عماد الدين زنكي.
أما في عهد الوزراء الشيعة، فيكاد الوزير طلائع بن رُزَّيك (549 ـ 556هـ/ 1154 ـ 1161م) أن يكون استثناءً من هؤلاء الوزراء، فبالرغم من كونه شيعياً، إلاّ أنه سعى لمحاربة الصليبيين، وحصلت بينه وبين نور الدين اتصالات لعمل مشترك ضدهم([19]).
ويشير د. علي الصلاّبي إلى سبب آخر جعل العبيديين الفاطمين يسعون للتقارب مع نور الدين زنكي ودولته السنيّة يتمثل بأن الفاطميين بعد أن فقدوا عسقلان، وهي آخر معاقلهم في الشام، في سنة 548هـ (1153م) أدركوا أكثر من ذي قبل خطورة الصليبيين عليهم وضرورة الاستفادة من قوة الدولة النورية وثقلها السياسي والعسكري([20]).
وبالرغم من اهتمام ابن رزيك بقيام تحالف بينه وبين نور الدين، إلاّ أنه لم يأتِ بالغرض المنشود، إمّا لأن نور الدين لم يكن يثق بالفاطميين وعروضهم، أو لأن ابن رزيك سرعان ما تم اغتياله بمؤامرة من البيت الفاطمي، ويذكر المؤرخون أنه تأسف في آخر عمره لعدم قيامه بتحرير القدس واستئصال شأفة الصليبيين([21]).
ويذكر المؤرخون أيضا أنه بالرغم من اهتمام ابن رزيك بمحاربة الصليبين، إلاّ أنه في سنة 555هـ (1161م) هدّد الصليبيون بغزو مصر، منتهزين فرصة الفوضى التي أعقبت مقتل خليفة الفاطميين، الفائز، فتعهد ابن رزيك بدفع جزية سنوية قدرها مائة وستون ألف دينار لثنيهم عن محاولتهم هذه([22]).
ولعلّ هذه الجزية التي تعهد ابن رزيك بدفعها للصليبين تختلف عن جزية أخرى ذكرها د. أيمن فؤاد سيد بعد إيراده لجهود ابن رزيك في محاربة الصليبيين، فقال "ولسبب مجهول فقد التزم الملك الصالح (ابن رزيك) بأن يدفع للفرنج جزية سنوية مقدارها 33 ألف دينار، امتنع شاور السعدي بعد أن تولى الوزارة عن أدائها لهم"([23]).
عادت الدولة العبيدية الفاطمية بعد مقتل وزيرها طلائع بن رزيك إلى التحالف مع الصليبيين، والاستعانة بهم ضد المسلمين، وخاصة في السنوات الأخيرة من عمرها، وهو ما سنوضحه في العدد القادم من هذه الزاوية إن شاء الله.
للاستزادة:
1ـ أثر الحركات الباطنية في عرقلة الجهاد ضد الصليبيين ـ يوسف إبراهيم الشيخ عيد.
2 ـ تاريخ الفاطميين في شمالي إفريقية ومصر وبلاد الشام ـ د. محمد سهيل طقوش.
3- صلاح الدين الأيوبي ـ د. علي الصلاّبي.
4- الدولة الفاطمية في مصر ـ د. أيمن فؤاد سيد.
[1]) ) ـ اتهم بقتل الأفضل، خليفة الفاطميين الآمر، بسبب تهميش الأفضل له، وتجريده من صلاحياته، كما اتهم أيضاً: الإسماعيلية النزارية، بسبب قيام الأفضل في وقت سابق باختيار أحمد بن المستنصر خليفة للدولة وإماماً للإسماعيلية بعد وفاة أبيه، بدلاً من الابن الأكبر للمستنصر، نزار، بحسب ما تنص عليه تعليمات الإسماعيلية، بانتقال الإمامة من الأب إلى أكبر أبنائه.
[2]) ) ـ الدولة الفاطمية في مصر ص 229 ـ 230.
[3])) ـ المصدر السابق ص241 ـ 242.
[4]) ـ بعد الخيانات التي اقترفها الأفضل والتحالفات التي عرضها على الصليبيين، لم يجد مفرّاً من الاصطدام بهم لأنهم لم يأبهوا لما عرضه عليهم من تحالفات ومعاهدات، وقيامهم بمهاجمة أملاك الدولة العبيدية الفاطمية، لكن محاولات الأفضل للتحرك جاءت متأخرة جداً بعد أن استولى الصليبيون على بلاد كثيرة، كما أنها كانت متواضعة في تجهيزاتها، لا تتناسب مع قوة العبيديين.
[5])) ـ تاريخ الفاطميين ص 466.
[6])) ـ أثر الحركات الباطنية ص 152.
[7])) ـ المصدر السابق ص 152 ـ 153.
[8]) ) ـ كانت مصر آنذاك مركز الدولة الفاطمية، لذا فإن لفظة مصر تَعني الدولة الفاطمية، والعساكر المصرية، تعني جنود الدولة الفاطمية.
[9]) ) ـ أثر الحركات الباطنية ص 151.
[10]) ) ـ المصدر السابق ص 153 وتاريخ الفاطميين ص 467.
[11]) ) ـ تاريخ الفاطميين ص 467، نقلاً عن "الكامل في التاريخ" لابن الأثير.
[12]) ) ـ أثر الحركات الباطنية ص 153، نقلاً عن "النجوم الزاهرة".
[13]) ) ـ المصدر السابق ص 153 ـ 154.
[14]) ) ـ تاريخ الفاطميين ص 469.
[15]) ) ـ أثر الحركات الباطنية ص 154.
[16]) ) ـ تاريخ الفاطميين ص 471، نقلاً عن النجوم الزاهرة.
[17]) ) ـ أثر الحركات الباطنية ص 155.
[18]) ) ـ المصدر السابق ص 155.
[19]) ) ـ أثر الحركات الباطنية ص 182.
[20]) ) ـ كتاب "صلاح الدين الأيوبي" ص 167.
[21]) ) ـ أثر الحركات الباطنية ص 183، والدولة الفاطمية في مصر ص 285.
[22]) ) ـ تاريخ الفاطميين ص 476.
[23]) ) ـ الدولة الفاطمية في مصر ص 284.