التصوف والرموز الصوفية عند الخميني
د. عبدالله عمر الخطيب – باحث أردني متخصص في مناهج النقد الأدبي
خاص بالراصد
عرضت في المقالات الثلاث السابقة إلى جملة من المعتقدات والمبادىء الأيديولوجية التي ضمنها الخميني في ديوانه، وقد بينت تجني الخميني على المفاهيم الدينية وتحطيمه للمقدس الإسلامي على حساب تعظيم الإثني عشرية ورموزها وخرافاتها العقدية، بما يمكن من خلاله تضليل قائلها بل وربما خروجه من الإسلام. وفي هذه المقالة سأسلط الضوء على التصوف الذي بدا في ديوانه وسيطر على الجزأين الأول والثاني من الديوان بشكل واضح، وقبل الولوج في عرض مضامين التصوف والخمريات لا بد من باب أمانة البحث والدراسة أن أشير إلى أن الشعر الصوفي يتكىء على الرمز في التعبير عن الوجدان والعاطفة وحب الذات الإلهية (وعشقها!) والتيه في فضاء الكون والآخرة والعالم الآخر، وإن الخميني وظّف هذه الرموز العرفانية معبرا من خلالها عن العاطفة الصوفية التي تخالجه، من هنا لا بد من تفهم ما ورد من ألفاظ وعبارات في شعره بأنها تدل على رمزية صوفية بحتة، لا كما أراد بعض الدارسين فهمها على أنها ذات دلالات حقيقية لا سيما ما وظفه من رمزية (الخمر، والكنيسة، والحانة) وأنا على المستوى الشخصي لا أقبل هذا النمط من الترميز، لكن الأمانة العلمية البحثية تفرض عليّ أن أفهمه في سياق الرمز الصوفي العرفاني الوجداني – فبغضنا للخميني – عليه من الله ما يستحق – لا يدفعنا للتجني عليه، فيكفي ما أوردتُه في المقالات السابقة دلالة على انحرافه وطغيانه.
وبعد ،،،،
يفرض التأويل() نفسه أداةً مهمة لقراءة الشعر الصوفي (الرمزي)، فالتأويل ذو منحى تأصيلي (إرجاع المعنى إلى أصله) وهو ما ينطبق على القراءة الصوفية التي تتجسد من خلال صرف الظاهر واعتماد الباطن لفهم النصوص وفق دلالتها الأصلية. لذا فإن الصوفي يعتمد كليا في تأويل الشعر بنقله من المعاني الحسية المادية إلى المعاني المعنوية مستفيدين من ثقافة المذاهب والفلسفات كافة..
يتخذ التأويل إذن مشروعيته في الشعر الصوفي انطلاقًا من أنه يتخذ شكلين: ظاهري وباطني، وهذا يفرض علينا تبني التأويل للكشف عن هذا المعنى الباطني، ويغدو التأويل فعلاً شاملاً يستعين بمختلف المعطيات اللغوية والفكرية للكشف عن دلالة النص، ويمكن للناقد من خلال محمولاته اللغوية والمعرفية من استنطاق النص الصوفي وكشف غموضه وتفكيك عباراته.
وحسبي هنا – ولست خبيرا في تفكيك رموز الصوفية ومصطلحاتها – أن أعرض لمقطوعات عاجلة، وومضات خاطفة من ديوان الخميني، تتماهى مع ما نحن بصدده هنا، مع الإشارة الى أن مترجم الديوان عرض في مقدمته إلى توضيح الكثير من الرموز الصوفية ومدلولاتها العرفانية.
الخمر والحانة
ألا أيها الساقي املأن بالخمر كأسي
فإنه يخلصن من الخير والشر روحي
املأن كأسي بالخمر تفنى روحي
وأخرج وجود الخداع والخيال من وجودي
أعطني من تلك الصهباء التي في مختلى المجانين الخارجين
تحطم سجودي وتهدم قيامي .... (الديوان ص 22).
الملحد والعارف والدرويش والصوفي والسكير
كلهم تحت أول أمرك وأنت الآمر الناهي
أنت القبلة وما خرقة الصوفي وكأس الخمر
وسيف الجهاد إلا مرشد إليك .... (الديوان ص 25).
جنون عاشق الحسان يتأتى من الخمر
وسكر عشاق الله يتحقق من سطلنا
فاجعلوا أيها المجان من الحانة روضة
لأن طائر الجنة السكران يحادثنا
فصب في كأسي أيها الساقي صهباءك
فهذا الدن المليء بالخمر هو سبب كرامتنا ... (الديوان 39)، وغيرها عشرات المواضع.
نلحظ هنا بوضوح استخدام الخميني للخمر والحانة والسكر والشراب، معبرا من خلالها عن حالة الحب الممزوج بالغياب حيث يلجأ الصوفيون وهم يعبرون عن الحب الإلهي إلى الخمر والمدامة، ووشاها بالرمزية الدالة على الأزلية، أراد بهذا الرمز أن يكسر ضيق الزمان والمكان؛ ليعبر عن تجربة لا تحدّها قيود الزمان والمكان؛ فالجنة هنا خروج عن الفضاء المكاني المحسوس إلى اللامحسوس.
ويقول المهتمون بالتأويل الصوفي في مثل هذه الرموز الصوفية (أراد أن يعبر بالخمر والسكر عن غيبة تكسر طوق الالتزام بعالم الأشباح، والغيبة هنا فناء عن ملاحظة التكثر، والسكر انتشاء بما أداره الحبيب على ألباب السكارى من لذة التوحد والقرب والمعرفة، والخمر بهذا التلويح توجب الغيبة عن جميع الأعيان الكونية، غيبة تكسر طوق: قبل وبعد ومتى، ليتلذذ السكارى بنشوة التلاقي الروحي في سابق الحضرة العلمية قبل ظهور كل ممكن، وتقدير كل مقدور، فيغدو السكر استجابة لوارد قوي لا يتجلى إلا في نفس قابلة متمردة على سجن الأشباح، إنها نفوس أصحاب المواجيد وجزء من مقام الولاية فالخمر هنا ليست الخمر الحسية، بل رمز يحملنا على التأويل الصادر عن كسر حجاب الحسيات، وهذا التأويل مرتبط بالأثر النفسي والروحي؛ فالسكر الصوفي غيبة وليس غشية، خمر معنوية ترجع الروح إلى الاتحاد مع المحبوب، الذي يمثل حبه أصل وجود المتعينات، والمعنى الحقيقي لحركة المتحركات.
وجاءت الخمر تعبيرا جياشا عن افتراق الروح وهجرة النفس بوارد الجمال الإلهي، خمر أزلية شربتها الأرواح المجردة؛ فانتشت وطربت وترقى مزاجها، من قبل أن تحصر في عالم المحدثات المسور بسجن الإمكان" (منقول بتصرف).
وهكذا نلاحظ أن الصوفيين أخذوا هذه الصفات المحسوسة للخمر، ثم أعادوا صياغتها بحيث تلائم ما يتعاطونه من مذاقات في المقامات والأحوال. فالخمر في صفائها تشكل من الناحية الرمزية دلالة التوحيد الخالص، وشهود الحق بالحق والتحقق في فناء ما سواه.
ومن علامات التحول العرفاني لرمز الخمر، الكلام على الأديرة المسيحية والرهبان والنواقيس، بما يذكرنا بالخمريات الحسية في العصر الجاهلي، ويحدثنا الأستاذ عاطف نصر عن وجه الارتباط بين الطقوس المسيحية والخمريات الجاهلية فيقول: "ويرجع الارتباط إلى أن نفرا من تجار الخمر كانوا من نصارى الروم، وأن نفرا من الجاليات المسيحية التي اختلطت بالعرب، كانوا يعاقرونها، أما الصوفية فقد اتجهت بهذا الارتباط متجها آخر، رمزت من خلاله بأهل الأديرة إلى العرفاء الذين ورثوا مقاما عيسويا روحانيا، فهؤلاء الصوفية تذكروا هذه المدامة وأشرفوا بها على عالم الأرواح المجردة عن الظلمات؛ فزج بهم في النور المحمدي الجامع لجميع مقامات الأنبياء".
العشق
قلبي المجنون هو أسطورة العالم
وبشمع العشق احترقت فراشتي
هدير الرعد هو نواح قلبي المحروق بروحي
وبحر العشق هو قطراتي السكرانة
دار العشق مشيدة ومنزل العشاق المحزونين
وقاعدتهما تعلو بوابة العرش الأعلى
لن أسجد إلا على قدم محبوبي
ولن أضحي بروحي إلا في هوى حبيبي
استرق العشق المجنون لكنه لم يكن مثلي
فليت أحدا لا يبتلى مثلي بالحبيب ...... (الديوان 25 – 46) والنماذج كثيرة.
يستوقفنا في هذا النص لفظ (العشق)، والذي يعني في المعجم الصوفي "إفراط المحبة أو المحبة المفرطة.. فإذا عمّ الحب الإنسان بجملته، وأعماه عن كل شيء سوى محبوبه، وسرت تلك الحقيقة في جميع أجزاء بدنه، وقواه، وروحه، وجرت فيه مجرى الدم في عروقه، ولحمه وغمرت جميع مفاصله، فاتصلت بوجود، وعانقت جميع أجزائه جسمًا وروحًا، ولم يبق فيه متسع لغيره.. حينئذ يسمى ذلك الحب عشقا". ولكن إذا أردنا أن نحاكم هذه اللفظة وفق التأويل اللغوي العربي المعجمي، فإنه يمكن القول بأن توظيف هذه اللفظة في حق الإله والمقدس تحطيم لآداب المناجاة ، بل وخروج عن المألوف في الدعاء. قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: ولما كانت المحبة جنسا تحته أنواع متفاوتة في القدر والوصف، كان أغلب ما يذكر فيها في حق الله تعالى ما يختص به ويليق به، كالعبادة والإنابة والإخبات، ولهذا لا يذكر فيها العشق والغرام والصبابة والشغف والهوى. وقد يذكر لفظ المحبة كقوله تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه [المائدة: 54].
والحاصل، أن المسلم ينبغي له أن يتقيد بالألفاظ الشرعية ولا يجوز له أن يطلق ألفاظا في حق الله تعالى لم ترد في الكتاب ولا في السنة" ويقول العلماء في هذا أيضا: "وهذا لفظ مبتدع لا يجوز التعبير به عن محبة الله، أولاً: أنه لم يرد في شيء من النصوص، والثاني: أنه يدل على الحب المفرط الذي دافعه الشهوة، إذاً العشق إنما يليق ويعبر به عن الحب الذي يكون بين بعض الناس وبعض، وأكثر ما يستعمل في الحب الذي بين الرجل والمرأة". إذاً فلا يجوز استعمال هذا اللفظ في حب العبد لربه، ولا في حب الرب لعبده، بل نقول: إن الله يُحَب ويُحِب، كما قال سبحانه وتعالى: ((يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)).
وحدة الأديان
يبذل الصوفي نفسه وروحه إنسانا متسامحا مع الآخرين، لا يفرق بين المعبودات، متصورا الآلهة المعبودة تدل على عظمة الخالق، وترشد إليه، لذا لا يجد الصوفي حرجا في احترام الآلهة المعبودة والنزول في معابدها وكنائسها وصومعاتها، لأنها في معتقده تتّحد مع الله، وتومىء إليه سبحانه، وقد تبنى هذا المعتقد ابن عربي وابن الفارض في شعرهما وحاكاهما الخميني في ديوانه، فمن شعر ابن عربي:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة
|
|
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
|
وبيت لأوثان وكعبة طائف
|
|
وألواح توراة ومصحف قرآن
|
أدين بدين الحب أنّى توجــهت
|
|
ركائبه فالحب ديني وإيـــماني
|
فيعارضه الخميني متأثرا به بقوله:
والمسجد والصومعة والمعبد والدير والكنيسة
وحيثما تمر يذكرك بمن هو سكينة فؤادي
نحن حجب وأستار وأنقاب وألثام
وهذه الحجب هي نفسها سري الغامض .... (الديوان ص42)، وغيرها من المقطوعات الشعرية.
شعوبية الخميني وأصوله الهندية:
وقبل أن أختم هذه الدراسة أود أن ألفت قارئي إلى أن الخميني قد تبنى مذهبا عنصريا شعوبيا في ديوانه، فمعاداة وكُره العرب وتحقيرهم والحط من شأنهم والتقليل من قدرهم هي من مظاهر وسمات الحركة "الشعوبية"، التي يترجم فلسفتها اليوم بكل وضوح وعملية ممارسات وسياسات النظام الإيراني, فالشعوبية هي حركة معاداة العرب وقد بدأت تلك الحركة في نهاية العصر الأموي وانتشرت بين الموالي وتمثلت بممارسات الشعراء والأدباء والزنادقة والملاحدة الذين كانوا يبغضون العرب ويمجّدون الحضارة والثقافة الفارسية التي أسقطتها سيوف الفتح العربي الإسلامي للشرق, وبدأت الحركة الشعوبية باسم المبادىء الإسلامية في البداية وقادها الغلاة من الفرس وتركزت الحركة في العراق أولا ودخل الشعوبيون في الحركات السياسية المعارضة وقادوا الدعوة العباسية ضد الحكم الأموي. لذا فإنك تتلمس بوضوح معالم الشعوبية في مقطوعات الديوان وحسبي أن أشير إلى اعتزاز الخميني بنسبه الأعجمي الذي ما فتىء يردده في شعره، وعجبي كيف لمن يدعي أنه من آل البيت رضوان الله عليهم، يعتز بشعوبيته ونسبه الأعجمي؟!!
وهذه مسألة لفت إليها الكثير من دارسي حياة الخميني وسيرته()، وبينوا جهالة نسبه بعد الجد الثالث؛ مما ينفي عنه حقيقة انتسابه إلى النسب الشريف، وها هو يؤكد (هنديته) وأعجميته صراحة في ديوانه، مما يعزز القول بتسلل عناصر ذات علاقة بأجندة معادية للإسلام إلى الصف الأول في قيادة التشيع، لعل في مقدمتهم الخميني، وربما يكشف التاريخ قيادات أخرى يشار إليها بالبنان في إدارة المشروع الشيعي والصوفي المعاصر.
ومن ذلك قوله عن نفسه ناسبا إياها للهند؛ واضعا النسب أينما ورد بين قوسين، وهذه إشارة سيميائية() لا مجال لتوضيحها هنا:
لا يفصح (الهندي) عن أسرار عشقك ... ص 32.
وإني لأقتفي أثره كل أيامي مثل (الهندي) ... ص 51.
لا يغادر مقامك قط مثل (الهندي) ... ص 64.
ولو سمع بقصيدة (الهندي) ... ص 217.
وما كان شعر (الهندي) من حلاوته كالسمر المكرر.. ص 243.. ومثلها نماذج عديدة.
ختاما:
إن كنا نحذر من الشيعة فكرا؛ ودينا؛ معتقدا؛ وإعلاما، فلعل بعد هذه الإضاءات السريعة العاجلة في هذه الدراسة تكشف عن مدى الحاجة للتحذير من الشيعة أدبا؛ وشعرا، ونثرا، فما أورده الشيعة في نثرهم ربما يوازي خطرا ما ينشرونه في مسلسلاتهم وأفلامهم التلفزيونية، حمى الله في علاه أمة الإسلام من شرهم().